اعتدنا منذ الصغر ان نقرأ عبارات على كل حائط، وفي كل مدخل مبنى، وعند كل مفرق شارع، وامام كل محل او دكّان، تنهي عن القيام بشيء ما "رمي ​النفايات​، ركن سيارة، السير في اوقات معيّنة..."، ودائماً ما تكون مذيّلة بعبارة "تحت طائلة المسؤوليّة"، كان ​لبنان​ في حينه مقسّم وتحت سلطة وسطوة الميليشيات المسلحة في مختلف المناطق، وكان المرء يهاب مما يمكن ان يلحق به من "مسؤولية" اذا ما خالف ما هو مكتوب، فكان يتفادى الامر ويلتزم بما يتم التحذير منه.

اليوم، بعد عقود من الزمن، تعود هذه العبارة للظهور في الاماكن نفسها وللاسباب نفسها، انما مع فارق كبير، وهو انّه لم يعد لها قيمة بالنسبة الى الناس، لانّهم اختبروا ان تحميلهم "المسؤوليّة" عن هذه التحذيرات لن يصيبهم او يؤثر عليهم، فاختاروا تحدّيها غير عابئين بـ"طائلة المسؤولية". ولكن، ما شجع الناس فعلاً على عدم الاكتراث بهذه التحذيرات، هم المسؤولون انفسهم من رسميين، ورؤساء احزاب وتيارات سياسية، وقضاة ومحامين، واصحاب مصارف واعمال تجاريّة وحرّة، وحتى امنيين. ولكن اللبنانيين، بغالبيتهم، لا يزالون يهابون عدم الالتزام بما لا يتمّ تهديدهم به، فيدفعون ما عليهم قبل ان يؤمّنوا لقمة العيش: ديون ​المصارف​ عليهم حتى بعد ان احتُجزت اموالهم وشاركتهم فيها، اجور الهواتف والمياه و​الكهرباء​ حتى ولو انهم لا يستفيدوا منها الا نادراً، ميكانيك السيارة حتى ولو انّ الطرقات وقوانين السير باتت مجرّد شعارات، اقساط التأمين على انواعها حتى ولو ان المؤمَّن لم يعد يستفيد من تأمينه بفعل الشروط الجديدة التي وضعتها الشركات بما يلائمها، وغيرها الكثير من الامور التي تعتبر طبيعيّة في ايّ بلد في العالم، واستثنائيّة بكل المقاييس في لبنان.

هذا الامر يعيدنا الى نقطة اساسيّة، مفادها انّ المسؤولين انفسهم الذين تم ذكرهم آنفاً، على مستوياتهم كافة، اعادوا عقارب الساعة الى الوراء، رغم تأكيدهم ليل نهار انها لن تعود، وانهم يعملون بكل ما يمكلون لعدم اعادتها، فإذا بهم يتقمّصون دور الميليشيات ويعيدون الناس الى ايام الحرب، انما من دون المدافع و​الصواريخ​ وخطوط التماس الميدانيّة. ألم نعد الى الوراء عندما لا نتمكن من التمتّع ب​الطاقة الكهربائية​؟ ألم نعد الى الوراء عندما نبحث عن ​الدواء​ من صيدليّة الى اخرى؟ ألم نعد الى الوراء عندما نبحث عن الطعام ونتخلى عن انواع عديدة من المواد الغذائيّة التي كانت حتى الامس القريب "لقمة الفقير" من خضار وفاكهة ومشتقات الاجبان والالبان؟ ألم نعد الى الوراء عندما نملك اموالاً على الورق لا يمكننا التصرّف بها الا وفق شروط تعجيزيّة تتغير كل يوم ولا تعطي المودع حقّه؟ ألم نعد الى الوراء عندما لا يمكن للمرء ان يشكو من عدم حصوله على حقوقه؟

هذه هي الرسالة التي يرغب المسؤولون في تمريرها الى الناس: "ممنوع عليكم المطالبة بحقّكم تحت طائلة المسؤوليّة"، وللاسف، تأقلمت غالبيّة اللبنانيين مع هذه القاعدة على مدار السنوات، ليبقى عدد قليل فقط غير قادر على التأقلم، ولكنه في الوقت نفسه غير قادر على احداث التغييرات المرجوّة، والاكثر ايلاماً في هذه الايام انه غير قادر على المغادرة ليحاول ان يبدأ من جديد في بلد آخر. ويبدو انه كتب على هذه الشريحة من اللبنانيين ان تحمل معها "مسؤوليّتها" على اكتافها كل يوم بغضّ النظر عن الظروف التي يعشها لبنان أكانت ايام حرب او سلام، او ضيقة او رفاهية، وتسير بها المسافات الطويلة، ليزداد الحمل بعد ان يضيف المسؤولون "مسؤوليّاتهم" على اكتاف هذه الشريحة.