لم يتوانَ البعض في لبنان عن جرّ قداسة البابا فرنسيس الى دهاليز المصالح الشخصية، وتحت ذريعة الدفاع عن البابا وابعاده عن الزواريب الضيقة اللبنانية، أمعن هذا البعض في اغراق البابا في وحول استغلال الرخيص معتبرين اياه جائزة ترضية يمكن نقلها من خانة الى اخرى. يدرك هذا البعض، او لا يدرك ربما، ان البابا انما يتخذ قراراته بناء على المعطيات التي يملكها والتي تصله من العديد من المصادر ومن خلال متابعاته اليومية للامور، فكم بالحري عندما يتعلق الامر بلبنان؟ وكيف يمكن لهذا البعض ان يكون على هذا المقدار من السذاجة للايحاء بأن هناك من يمكنه التأثير على قرارات الكرسي الرسولي؟ لماذا الاصرار على التقليل من شأن البابا ومن مكانته وقدراته وامكاناته، للقول تارة بأنه يستمع الى هذا المسؤول او ذاك للشكوى واتخاذ قراره، والقول تارة اخرى انه "ينتقم" من هذا المسؤول أو ذاك لقيامه بأمر ما؟.

بالامس دخلت زيارة البابا فرنسيس الى لبنان بازار هذا السوق السجالي التافه، وبعد ان صدر عن قصر بعبدا بيان وفيه ان البابا فرنسيس سيزور لبنان في حزيران المقبل، قامت الدنيا واصبح الامر وكأن رئيس الجمهورية ضمّه الى فريق لاعبيه في الانتخابات المقبلة... وكل من حاول الدفاع عن البابا في هذا المجال، انما دان نفسه بنفسه حين زاد في الباس الحبر الاعظم تهمة مجاراة هذا الامر. اما ما تم جمعه من حقائق حول قضية الزيارة، وفق اكثر من مصدر، فيمكن سرده كالتالي:

-يوافق الجميع على ان الزيارة حاصلة، وانها حتماً بعد الانتخابات النيابية (يذهب البعض الى ربطها باجراء هذه الانتخابات)، وان حصولها هو قبل نهاية العام الجاري وحتى قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، لان البابا لا يرغب في زيارة لبنان من دون ان يكون هناك رئيس للجمهورية فيه، نظراً الى القيمة الدينية والمعنوية لهذا الموقع في هذا البلد.

-تم الاعلان عن موعد الزيارة في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الاعلام قبل الاعلان عنها من قصر بعبدا، وبالتالي فهذا يعني ان تهمة استغلال الزيارة، ليست في مكانها.

-ان القيام بزيارة من هذا النوع لا ينحصر تحضيرها فقط بقصر بعبدا، وعلى غرار الزيارات التي شهدها لبنان لباباوات سابقين (القديس يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر)، هناك العديد من الاطراف التي يتم التنسيق معا قبل وقت طويل (في هذه الحالة وقت قصير جداً) لتأمين كل النواحي الدينية الليتورجية واللوجستية والامنية والبروتوكولية ووضع برنامج الزيارة الذي يوافق عليه البابا حصراً، وكل التفاصيل. وهذا ان دل على شيء، فعلى ان جهات كثيرة كانت على علم مسبق بالزيارة حتماً.

-يوافق الجميع على ان ما صدر عن قصر بعبدا دقيق، لانه اولاً اتى بعد زيارة السفير البابوي في لبنان المونسنيور جوزف سبيتيري الى عون عصراً، وهو بدا من خلال الصور الموزّعة عن اللقاء حاملاً رسالة خطية. فالبيان لم يحدّد موعداً دقيقاً للزيارة، بل اكتفى بالاشارة الى الشهر الذي ستحصل فيه، ولم يتطرق الى برنامجها لانه يحتاج الى موافقة البابا فرنسيس عليه، وما حصل انه اكّد المؤكد والمعروف من قبل اكثر من طرف.

-كان غريباً عدم صدور اي موقف من السفارة البابوية في لبنان او من المونسنيور سبيتري نفسه عن السجال الحاصل، فهو المعني الاول بالموضوع، كما ان السفير الحالي ليس جديداً على الدبلوماسية وهو تولى تمثيل الفاتيكان في العديد من الدول كما عمل لفترة غير قصيرة في امانة سر دولة الفاتيكان (قسم العلاقات مع الدول)، ومن غير المرجّح ان يتغاضى عن خطأ فادح في حال حصوله، ارضاء لاي كان، ويمكنه القيام بذلك بأسلوب دبلوماسي لا ينقصه بطبيعة الحال.

-لا يمكن لاحد، مهما كانت مكانته، استغلال زيارة يقوم بها البابا الى بلد ما. فالزيارات الباباوية تختلف جذرياً عن زيارات الرؤساء والمسؤولين في دول العالم. فعندما يقوم بزيارة بلد، انما يزور شعب هذا البلد في الدرجة الاولى، ولا يمكن وضع الزيارة في خانة طائفة او مذهب او مسؤول، لانها تكون شاملة، لذلك يحرص الباباوات على ان يوافقوا شخصياً على برنامج الزيارة منعاً لاي اساءة لفهم الهدف منها. فكيف سيستفاد من الزيارة ان حصلت بعد الانتخابات اولاً، ومن الذي سيستفيد منها ان كانت شاملة وهدفها اولاً واخيراً الشعب اللبناني لدعمه ومساندته واعطائه الدعم المعنوي الذي يحتاجه في هذه الاوقات للصمود وتخطي الازمات المتلاحقة التي تعصف به؟.

تأتي الزيارات الباباوية لتعزيز موقع البلد المعني بالزيارة وشعبه، ولكننا في لبنان، نملك هذ القدرة "الشيطانية" على محاولة افقاد قيمة مثل هذه الزيارات، لانه في كل دول العالم يسود الفرح والامل شعوب الدول المنوي زيارتها حتى من الطوائف غير المسيحيّة، بينما يتمتّع البعض في لبنان في البحث عن اسباب وقشور لافقاد الزيارة معناها الحقيقي وما يمكن ان ينتج عنها من نتائج يتوخاها الحبر الأعظم لاعطاء جرعة معنوية ضرورية لشعوب هذه الدول.