ها هُم المَسيحيِّونَ صاعدونَ الى لبنان.

وفي نَظَرِ القديس البابا يوحنا-بولس الثاني، لبنانُ هو أورشَليم الجَديدَةُ. لا تِلكَ الراجِمَةُ الأنبياءَ والمُرسَلينَ إلَيها، بَل التي يَتِّمُ فيها الفَرَحُ الحَقيقيُّ بالقيامَةِ مِن مَوتٍ عَبَرَتهُ فِصحاً الى الأبَدِ.

مِن دونِ لبنان-الأورشَليم الجَديدَةُ، المُقَدِّمِ نَفسَهُ ذَبيحَةً، بِدَمِهِ الفَصيحِ، لا يُدرَكُ عُمقُ الصَلبِ ولا عُمقُ الحُبِّ. إذ هو المَكانُ الوَحيدُ الذي يَتَجَوهَرُ فيهِ الوجودُ، والزَمانُ الوَحيدُ الذي تُفتَدى فيهِ الحَياةُ لِتَغدو واجِبَةُ الوجودِ.

لكنَّ في أورشَليمَ أثَمَة، لا كأيِّ فَعَلَةِ شَرٍّ مَرصوفونَ مَعَ الخَطأةِ، بل أثَمَةُ عُبوديَّةٍ تَنتَقِمُ لِذاتِها بإبتِغاءِ إستعبادِ الآخَرينَ. أثَمَةٌ ظافِرونَ بالظُلمَةِ، حَدَّ عَمى أنفُسِهِم عَن رؤيَةِ الله. بَينَ الفَوضى والطُغيانِ يَرتَعونَ، وَمِن حُكمِهِم تُحَدَّدُ مَصائِر وَتَتَثَبَّتُ طَبائِع لِمَمالِكَ أرضيَّةٍ تُسلَمُ إليهِ: المُجَرِّبُ، الشِرِّيرُ، الشَيطانُ. ذاكَ الذي هو عَدوُّ الوجودِ، يَعِدِّهُ قَفراً، فَيَمحوهُ دُفعَةً. في كَثافَةِ الإلغاءِ نَجاتُهُ، وَنواميسُ إستِعلائِهِ، وَتَحقيقُ أفعالِهِ. وَليدُ الزَمانِ وَالمَكانِ هو، وَفي الوجوداتِ، قُوَّةُ بَطشِهِ التي بِها يُزَعزِعُ أُسُسَ الخَليقَةِ، دافِعاً إيَّاها الى الإنهيارِ.

وأكثَرُ! في لبنانَ، ما عادَ حُضورُهُ في الخارِجِ البَرَّاني، في الضَلال وَحدَهُ. بل الى عُمقِ الداخِلِ عَبَرَ بِتَجارِبَ في إنقِضاضٍ بَطيءٍ، مُتَراكِمٍ، مُتَلاحِقٍ أفضى الى مَوتِ وَطَنٍ تُرِكَ بَيتاً قَفراً لِشَعبٍ إنتَهى عارياً، مُمَزَّقاً، مَصلوباً على قارِعَةِ الأُمَمِ.

أجَل! لَقَد وَقَعَ اللبنانِيُّونَ، وَفي طَليعَتِهِم المَسيحيِّونَ، في تَجارِبَ الشَيطانِ، الذي قادَهم الى الصَحراءِ انطِلاقاُ مِن هوِيَّتِهِم.

أغواهُم بِوَهمِ المادَّةِ ليُشبِعواً بِها جوعاً، فَتَرَكوا الكَلِمَةَ التي بِها يَحييونَ.

أغواهُم بِخَتمِ السُلطَةِ ليَسُدُّوا نَهَماً، فأسلَموهَ مَمالِكَ أبعادِهِم التي مِن قِمَمٍ وَسَجدوا لَهُ.

أغواهُم بِخُيلاءِ قُدُساتٍ ليَنهَلوا مِنها كَينوناتٍ، فَرَموا بأنفُسِهِم مَن عَلِيَّاتِ هَياكِلَ إيمانِهِم، وَما وَجَدوا يَداً تَتَلَّقاهُم، فإرتَطَموا في خَيَاراتٍ إنتِحارِيَّةٍ كَرَّسَت غَلَبَةَ الظُلُماتِ.

وإذ باتوا رَهائِنَ ادِّعاءاتٍ وَمُكابَراتٍ، وأحجِيَةَ مُخادَعاتٍ، وَهَذيَان تَصادُماتٍ وَخُضوع لإملاءاتٍ، وإستيلاد فَوَاجِعً مَن إلتِهابِ تَحالُفاتِ النِفاقِ مَع الشَيطانِ، حَطَّموا حَتى الذي لا بَدءَ قَبلَهُ، وَبِهِ كانَ لَهُم كُلُّ ما كُوِّنَ، وَقَد كانَ لَهُم الأقرَب الذي ما تَناءى، والأبقى الذي مِن فَيضِهِ وُجوب فَيضِهِم.

دُموعُ التائِبينَ

في أورشَليم-الجديدةُ-لبنان، دُموعُ التائِبينَ وَحدَها بُشرى فَجرِ القيامَةِ، بَعد عُصيانِ مَن لَهُم أُعطِيَ كَيانٌ سِرَّاً طَقسِيَّاً، فإرتَفَعَ هَيكَلاً.

في لبنانَ-أورشَليمُ الجَديدةُ، يُقيم في البَيت، لا المُتَسَلِّطونَ مِن ذَوي المَظالِم، ولا المُنثَنونَ في أحكامِ الإذلالِ بالإلغاءِ، بَل المُبصِرونَ. اولَئِكَ الذينَ مِن بَصيرَتِهِم تُعادُ الروحُ الى الجِسَدِ، والأنا-النَحنُ الى الإرادَةِ، والوجودُ الى الجَوهَرِ، وَبالعَكس. بِكَلِمَةِ، اولَئِكَ الذين يُعيدونَ الأولويَّةَ للحرِّيَةِ التي لا تَكونُ بالخُضوعِ لإملاءاتِ الشَيطان، بَل بإلتِزامِ الإنتِماءِ الى الهويَّةِ، في ثُنائيَّةِ الإرتِقاءِ والتَفاعُلِ الغامِرَينِ... وإن إقتَضى الأمرُ الإنحِدارَ الى الجَحيمِ، لأنَّ مِنهً قوَّةُ الصُعودِ مِنَ المَوتِ الى الحياةِ، لِكُلِّ زَمانٍ وَمَكانٍ.

أجل! أن يَصيرَ اللبنانيِّونَ، والمسيحيِّونَ في طَليعَتِهِم، الى الله لا الى الشَيطانِ، وَيكونوا واحِداً وإيَّاهُ، وَقَد أدرَكوا، مِن مَصلوبِيَّتِهِم، أنَّ حَقيقَةَ الإنسانِ بالله، وَحَقيقَةَ لبنانَ في الإنتِماءِ اليَهِما مِعاً، تِلكَ رَسالَتُهُم.

أما لِهَذا اللبنانَ أن يَكونَ؟

مِن فِصحِهِ، يُزهِرُ القَفرُ، وَيَنوَجِدُ العالَمُ الذي لم يَنوَجِد بَعد، حَيثُ يَسكُنُ الله مَع الأبرارِ "فيكون كلُّ شَيء جَديداً".

*الرسم بريشة الفنان مصطفى فرّوخ