قطعت ​السعودية​ الشك باليقين، واستلحقت نفسها للعودة على الساحة اللبنانية قبل موعد ​الانتخابات النيابية​ التي بات اجراؤها شبه محسوم (كي لا ندعي معرفة الغيب)، خصوصاً وان شكوكاً كثيرة كانت اثيرت حول امكان حصول الاستحقاق الانتخابي في موعده المقرر. ولم تكن عودة السفير السعودي الى لبنان ​وليد البخاري​ عادية، اذ اصرّ على ان تكون مميزة، فأقام حفل افطار جمع فيه عدداً كبيراً من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين وسفراء الدول الاجنبية وفي مقدمهما سفيرتا الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا. وكان لافتاً استمرار الجفاء بين الرياض والنائب سعد الحريري، الذي وان لم يكن في لبنان، فمن غير المرجح الا يأتي خصيصاً للمشاركة في الافطار لو تمت دعوته اليه، الا ان حضور عمته النائبة بهية الحريري رطّب الامور بعض الشيء، واكد مجدداً ان الخلاف هو مع شخص وليس مع عائلة.

قررت السعودية ان تلعب ورقتها السياسية بالاسلوب المالي، وفق ما هو متوقع منها دولياً، انما هذه المرة ليس هناك من هبات مجانية وستحاول كسب ما يمكن كسبه في صراع النفوذ مرة اخرى، ولذلك عمدت الى طمأنة المعنيين انها لن تتخلى عن السنّة في لبنان بعد، لا لصالح تركيا او لصالح اي دولة اخرى، وان دورها في الورقة اللبنانية سيبقى قائماً وستحاول تعزيزه قدر الامكان في المرحلة المقبلة، بعد ان بدأ الانفتاح الخارجي على لبنان اثر توقيع الاتفاق الاوّلي مع صندوق النقد الدولي، وترقب زيارة البابا فرنسيس في حزيران المقبل، وحماوة النار الانتخابية لاثبات الوجود النسبة الى الحلفاء. وجوه كثيرة حضرت الافطار واخرى غابت، وبدا واضحاً ان تواجد رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط مثلاً هو لطمأنته بأن دوره لم ينتهِ بعد، وان الخطر الذي يستشعر به في الانتخابات ستحاول الرياض تذليله عبر اتصالاتها ودعمها، وكان الحرص واضحاً على حضور وجوه مسيحية ايضاً وفي مقدمها رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع والنائب سامي الجميل، مع الحفاظ على المكانات من خلال دعوة الرئيسين السابقين امين الجميل والعماد ميشال سليمان. اما الجهة الشيعية فتمثلت بدعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي تمثل بوزير الزراعة. ولم يكن الحضور السنّي هامشياً بطبيعة الحال بفعل حضور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وكل من فؤاد السنيورة وتمام سلام، وبهية الحريري...

لا يمكن اغفال حقيقة ورسالة نفوذ من خلال هذا الافطار، اراد البخاري توجيهها الى الجميع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قدرته على جمع المسؤولين اللبنانيين والدوليين في مكان واحد، وهو امر عجز عنه مثلاً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حين دعا الى طاولة حوار لبحث الوضع اللبناني، وكانت المأدبة الرمضانية السعودية بمثابة دليل على ان الغياب القسري عن الساحة اللبنانية لم يخفف العزم والنفوذ، وان العودة اتت بزخم كاف. اما الشق الآخر من الموضوع، فكان اعلان ميقاتي ان ابواب السعودية فتحت له لزيارتها بعد فترة طويلة من اغلاقها في وجهه، وهذا ايضاً دليل على ان الاهتمام الخليجي بلبنان عاد الى ما كان عليه، وفي ذلك قراءة ايضاً بأن الخليجيين والخارج سلّموا مسبقاً بنتائج الانتخابات، وانهم انما يترقبون نسبة النفوذ الذي سيتقاسمه اللاعبون انفسهم، والنسبة الصغيرة التي ستحصل عليها الفئات الاخرى غير المنتمية الى الاحزاب الرئيسية والتي لن تقدّم او تؤخر في السياسة العامة التي ستوضع. اضافة الى ذلك، فإن العودة السعودية تؤشر الى ان البرنامج الدولي الموضوع حول لبنان، اخذ طريقه الى التنفيذ وما ينتظره بالفعل هو فقط وضعه موضع التنفيذ بغض النظر عن التفاصيل التي لن يكون بمقدور لبنان تغيير الكثير في شأنها، لان ما كتب قد كتب.