الأُسبوعُ العَظيمُ قِياميٌّ، وكُلُّ ما يَتَضَمَّنُهُ مِن خِدَمٍ لِيتورجِيَّةٍ قِياميٌّ. حتَّى في يَومِ الجُمعة العَظيم، وهي الخِدمَةُ المَهيبةُ لِدَفنِ المَسيحِ، فإنَّ القيامَةَ المَجيدَةَ مُؤكَّدَةٌ في التَّقاريظ: "كَيفَ مُتَّ يا ربُّ وسَكنتَ القبرَ، غيرَ أنّك حَللتَ سُلطانَ الموت، مُنهِضًا مِنَ الجَحيمِ المَائتين".

قَبلَ دُخولِ الأُسبوعِ العَظيم، أَظهَرَ لنا الرَّبُّ في إقَامَةِ لَعازَرَ مِنَ القَبرِ، بَعدَ أربَعَةِ أيَّامٍ على مَوتِه، أنَّ القِيامَةَ يَقينٌ، لِذَلِكَ قالَ لنا الرَّبُّ لا تخافوا مِنَ المَوتِ، فإنّي أَبطَلتُهُ، وسأُقيمُ كُلَّ واحِدٍ مِنكم إلى حَياةٍ أبَدِيَّة.

هذا هُوَ إيمانُنا، إيمانٌ قِياميٌّ. وما نَعيشُهُ مِن آلامٍ مَعَ المَسيحِ، هُوَ مَنظُومةٌ ثُلاثيَّةُ الأبعَادِ، مُترابِطَةٌ لا تتجَزَّأ: "حُزنٌ وفَرَحٌ ومَجدٌ". كيف لا والمُتَوَفَّى "هُوَ" الخالِق!

كيفَ هَذا: مُتَوَفَّى وخَالِقٌ في الوقتِ ذاتِه؟! نَعم، مَنطِقُ اللهِ يَتخَطّى المَفاهِيمَ البَشريَّةَ، ولا يُفهَمُ إلّا بِالمَحبَّةِ الإلَهِيَّةِ اللامُتناهِية.

يَسوعُ أحبَّنا حتَّى الموت، فكانَتِ القِيامَة. ماتَ بِطبيعتِهِ البَشرِيَّةِ، وقامَ بِطَبيعتِهِ الإلَهِيَّةِ، وأقامَنا مَعَه. فَحياتُنا، إذًا، ما هِيَ إلا مَسيرَةٌ قِياميَّةٌ إن فَطِنَّا لِذَلِكَ، وأحسنَّا الاختِيار. هَذا ما تُحاوِلُ الكَنيسَةُ دائِمًا، في كُلِّ أحَدٍ وعلى مَدارِ السَّنةِ، وَمِن خِلالِ الليتُورجِيةِ المُقَدَّسَة، أن تُدخِلَنا إيّاه: "البُعدُ القِياميُّ"، الّذي هُوَ مِن خارِجِ هذا العالَم.

ولا نُبالِغُ إن قُلنا: إنَّ خِدمَةَ قُدّاسِ الفِصحِ المَجيدِ، مِن الهَجمَةِ إلى صَلاةِ السَّحَرِ إلى القُدّاسِ الإلَهيّ، عُبورٌ قياميٌّ مَليءٌ بِالحَلاوَةِ والأطايبِ الّتي هِيَ أَشهَى مِنَ العَسلِ، وطَعمُها يَبقَى فِينا قُوَّةَ تَعزِيَةٍ ورَجَاء.

هي أُنشُودَةٌ ظَافِرةٌ مَحبُوكَةٌ بالألحانِ الرنَّانَةِ، والقِراءاتِ المُبَلسِمَةِ وَالصَّلواتِ المُعَزّيَة. حَناجِرُ المُرَتِّلينَ في خِدمَةِ الفِصحِ المَجيد، تَنتَقِلُ صُعودًا ونُزولًا على دَرَجاتِ السُّلَّمِ المُوسيقيّ بِألحانِهِ الثَّمانِيَة. تَعابيرُ وُجوهِهم وحَرَكاتُ أيدِيهم تُتَرجِمُ ما يُرَتِّلون. الكُتُبُ الطَّقسيَّةُ تُفتَح. جَمالاتٌ ما بَعدَها جَمالاتٌ. آباءٌ قِدّيسونَ عُظَماءُ كَتَبُوا ولَحَّنُوا ما عاشُوه في علاقَتِهم مَعَ مَعشُوقِهم المَسيح.

تَارةً تَصدحُ الألحانُ، وطَورًا تتَوقّفُ لِتُقرَأَ قِطَعُ الصَّلاةِ الخاصَّةِ بِالعيد. كَلِماتٌ مَمزوجَةٌ بِدُموعٍ وتَوبَةٍ وجِهاداتٍ رُوحِيَّةٍ كَبيرةٍ هي حَصادُ سَنواتٍ طِوال. ويُحاوِلُ القارئون إيفاءَ الكلامِ حَقَّه، لفظًا وصرفًا. وذَلِكَ لِمُساعَدَةِ المُؤمنينَ لِعَيشِ الحَدَثِ الإلَهيّ الفِصحِيّ.

هذا مِن جِهَةِ ما نَسمَعُه. فكَيفَ بالنِّسبةِ لِمَا نُشاهِدُه؟.

هنا أَيضًا يَعجَزُ الوَصفُ ويَخرَسُ الكلام. فاللَّونُ الأبيضُ يَلُفُّ المَكان. وَرَقُ الغارِ الذي نَثَرَهُ الكاهِنُ في قُدّاسِ سَبتِ النُّور، عِندَما خَرَجَ مِنَ الهَيكَلِ، وهُوَ يُرَنِّمُ "قُم يا اللهُ واحكُمْ في ​الأرض​..."، ​​​​​​​​​​​​​​مَا يَزالُ يَفتَرِشُ أرضَ الكَنيسة. إنَّهُ يَشهَدُ لِقِيامَةِ المَسيحِ والانتِصارِ العظيمِ الّذي حَقَّقَهُ الرَّبُّ على المَوت.

وتُطرَحُ اسئِلَةٌ عِدَّة: ما الّذي يَجري في خِدمَةِ عيدِ الفِصح؟ أينَ نَحنُ؟ مَتى بَدَأتِ الصَّلواتُ ومَتى انتَهَت؟ هل نَحنُ خارِجَ هذا الزمن؟ نَعم، نَحنُ في حَضرَةِ الله. فَرحٌ وعَظَمَةٌ وبَهاءٌ، فالرَّبُّ قامَ.

الأبوابُ فُتِحَت، والثُّريّاتُ اهتَزَّت، ودَخَلَ الكاهِنُ الكَنيسَةَ، يَتبَعُهُ المُرَتِّلونَ والمُؤمِنون. الجَميعُ يُنشِدُونَ بِفَرَحٍ وغِبطة: "​المسيح​ُ قامَ مِن بَينِ الأمواتِ ووطِئَ المَوتَ بِالمَوت. ووَهَبَ الحَياةَ للَّذينَ في القُبور. و "هَذا هُوَ اليَومُ الّذي صَنَعَهُ الرَّب، فلنَفرَحْ ولنتَهَلَّلْ به".

كَلِمَةُ "يوم" هنا، تَعني كُلَّ يَومٍ، وكُلَّ لَحظَةٍ نَعيشُها مَعَ المَسيح. ظَفَرٌ لا يَنتهي، حتَّى في أقسَى الظُّروفِ وأصعبِها. نحنُ شعبٌ لا يَعرِفُ اليأسَ، فَربُّنا أسكَتَ العَواصِفَ، وأخرَجَ الشَّياطينَ، وأَقامَ المَوتى. حتّى مَن اعتَقَدَ أنَّ صَلبَهُ كان النِّهايَةَ، خَابَ ظَنُّه، لأنَّ الّذي هُزِمَ على الصليب، هُوَ الموتُ وليسَ سيِّدَ الحَياة. وهذا ما تُظهِرُهُ أيقونَةُ الصَّليبِ بِوُضوحٍ تامّ: تَقاسيمُ جَسَدِ يَسوعَ المَصلوبِ لا تُشيرُ إطلاقًا إلى إنسانٍ مَهزُوم، بل إلى إنسانٍ منتَصِرٍ وظافِر.

يُخبِرُنا متّى الإنجيليّ، أنَّ يَسوعَ صَرَخَ بِصَوتٍ عَظيمٍ وأسلَمَ الرُّوح[1]. كَذَلِكَ يَذكُرُ يُوحنَّا الإنجيليُّ أنَّ يَسوعَ قالَ: «قَدْ أُكْمِلَ[2]» وأسلَمَ الرُّوح.

هنا لا بُدَّ لَنا مِنَ القَولِ إنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ في الأناجيلِ لها مَعناها وأَهميَّتُها. فصرخَةُ يَسوعَ لها مَعنَاها، وما قد أُكمِلَ، لهُ مَعناه.

لِنبدأ بِالصَّرخَةِ: هِيَ صرخَةٌ مُجَلجِلَةٌ أرهَبَتْ سُلطانَ المَوتِ وأدرَكَ عدوُّ الإنسانِ، إبليسُ، أنَّهُ انهَزَم. كذلكَ، تَنقُلُنا هذه الصَّرخَةُ مُباشَرةً، إلى أيقُونةِ نُزولِ الرَّب إلى الجَحيمِ، وهِيَ المَعروفَةُ شَعبِيًّا بِأيقُونَةِ القِيامة، حيثُ نُشاهِدُ تحتَ قدَمَي الرَّبِّ أبوابَ الجَحيمِ مُخلَّعَةً، ومَفاتِيحَهُ مُبَعثَرَة، والشَّيطانَ مُقَيَّد.

يَقِفُ الرَّبُّ، في هذه الأيقونةِ، في الوَسَطِ، خارِجَ قَاعِدَةِ الجاذِبِيَّة، يَنتَشِلُ بِكِلتَا يَدَيهِ آدَمَ وحَوَّاءَ، اللَّذَين يُمَثِّلانِ البَشريَّةَ جَمعَاء. وعادَةً ما نُشاهِدُ في الأيقُونَةِ ذاتِها، أشخَاصًا عَن يَمينِ الربِّ ويَسارِه، مِنَ العَهدِ القَديمِ: يَقِفُ القِدّيسُ يُوحنَّا المَعمدانِ، ويُشيرُ بِيدَيهِ إلى الرَّب، هُوَ الذي قالَ اجعَلُوا طُرُقَ الرَّبِّ مُستَقِيمَةً، ومُوسَى، وإيليّا الذي كان يقول: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ ". كذلِكَ يَقِفُ هَابيلُ الرَّاعي الّذي قَتَلَهُ شقيقُهُ غَدرًا، والمَلِكُ داودُ الذي قال: "مِنَ الأَعْمَاقِ صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ[3]"، وابنُهُ سُليمانُ الّذي بَنى الهَيكَلَ، وهُوَ الآنَ يَقِفُ أمامَ الرَّبِّ، الهيكَلُ الحَقيقيّ الّذي لا يَفنَى ولا يَزُول.

وأحيانًا زَكريّا وإشعياءُ، ودانيال الذي تكلّم على القيامة: "كَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ[4]".

كلّهم تنبَّأوا عن مَجِيءِ المُخَلّْص.

إذًا هذا الَّذي كَمُلَ: نُبوءاتُ العَهدِ القَديمِ عَن يسوعَ وخلاصِهِ للبَشَرِيَّة. فَالمَسيحُ المُنتَظَرُ أتى والنُّورُ بَزغَ مِنَ القَبرِ والجَحيمُ تَمرمَرَت، والسَّمواتُ انفَتَحَتْ لِكُلٍّ مِنّا، إن أمسَكنا بِيَدِ السيِّدِ جَيِّدًا ولم نُفلِتْها.

مِن هُنا، صَليبُنا قِيامَةٌ وظَفَرٌ، ونَرى يَسوعَ يَحمِلُهُ في بَعضِ الأيقُوناتِ القِيامِيَّةِ الّتي كُتِبَت لاحقًا. أمَّا أيقونَتَا القِيامَةِ الأساسيَّتان والأقَدمان، فهما: الأُولى، التي أشَرنا إليها سابقًا، والثانية أيقُونَةُ القَبرِ الفارِغِ معَ حامِلاتِ الطّيب.

خلاصة، في صلاةِ السَّحَرِ التي تَسبِقُ قُدّاسَ الفِصحِ المُفعَمِ بِالحياة، نُشاهِدُ الكاهِنَ، في كُلِّ مرَّةٍ يَخرُجُ فيها مِنَ الهَيكَلِ لِيُبَخِّرَ المُؤمِنينَ، ينظُرُ إلى الأيقونَاتِ المُقَدَّسَةِ مُخاطِبًا إيّاها بِصَوتٍ عالٍ بِصَيحَةِ: المسيح قام. وبالطَّريقَةِ نفسِها يُخاطِبُ المؤمنين، وهم يُجيبُونَهُ: حقًّا قام. فلا مَوتَ بَعدَ الآن.

ونَختُمُ بِما يُنشِدُهُ الكاهِنُ عِندما نُشعِلُ شُموعَنا مِن شَمعَتِهِ قبلَ الهَجمة، ونعود لِندخُلَ بها الى الكنيسَةِ: "هلُموا خُذوا نُورًا مِن النورِ الذي لا يعروه مساءٌ، ومَجِّدُوا المسيحَ النَّاهِضَ مِن بينِ الأموات".

إلى الرَّب نطلب.

[1] - متى ٥٠:٢٧

[2] ـ يوحنا ٣٠:١٩

[3] ـ مزمور ١:١٣٠

[4] ـ دانيال ٢:١٢