لَكَ أن تَكونَ ​لبنان​يَّاً! هي نِعمَةٌ تُعطى لَكَ، وَما عَلَيكَ إلَّا إستِحقاقَها، لا بِمُجَرَّدِ إعتِرافٍ بَل بِكُلِّ ما أوتيتَ، مِن آمالِكَ الى رَغَباتِكَ فَتَطَلُّعاتِكَ وإنجازاتِكَ، أيّ بِكُلِّ ما أوتيتَ مِن رُنُّوٍ نَحوَ حَقيقَةٍ مُطلَقَةٍ. وهذا ليس بِسَهلٍ، لأنَّ الخُنوعَ لِعُنصُريَّةِ الغَطيطَ فَوقَ الظواهِرِ والطَفوَ على زَبَدِ الرِمالِ أسهَلُ إدراكاً.

وَما أكثر اولئِكَ الذينَ يَتبَجَّحونَ بِتَكديسِ هُويَّاتٍ لَهُم مِن وَرَقٍ أو مِن جَوازاتِ سَفَرٍ، هي دَغدَغاتُ إنعِدامِ مواجَهاتٍ بَل سِجِّلاتُ هُروبٍ مِنَ المُبتَدأ وَتَهَرُّبٍ مِنَ المُنتَهى... وَبَينَهما تَيَهانٌ عَنِ المَقصَدِ. تَراهُم غالِباً يَلهَثونَ صَوبَ لا مَدى وَلا زمان، فإذا بِهِم لا يَلحَقونَ أنفُسَهُم إلَّا بَطَليقِ الشُرودِ على مُنحَدَراتٍ. وقد يَتَسابَقونَ بإقتِراعٍ لِرَئيسٍ مِن هُنا او مَرؤوسٍ مِن هُناكَ، وَهوَ لَيسَ لَهُم إلَّا مَفَرَّاً مِن سؤالٍ: مَن أنتَ حَقَّاً لِتَقتَرِعَ على إسمي، وَعلى أصيلِ هُويِّتي تُزاحِمُني، وَهي لَيسَت لَكَ إلَّا رَقماً مُضافاً في حَنايا مُمتَلَكاتِكَ؟.

الإنتِماء لِلبنانَ، صَعبٌ إذاً؟ بَل هو الصُعوبَةُ بِحَدِّ ذاتِها، لأنَّهُ مَكتوبٌ في مُدَوَّناتِ العَقلِ البَشَريِّ أنَّ بِكرَ التَطوُّرِ هوَ الخَلقُ، وَأنتَ في لُبنانيِّتِكَ، إنَّما تأتي مِن هذا المَقلَعِ البِكرُ وإليه تَمضي، وَقَد نَفَضتَ عَنكَ الهَوانَ، فَتَعلو إذ ذاكَ نَحوَ بَلاغٍ أقصى، هوَ أكثَرُ مِن مُجَرَّدِ مِقياسٍ لِتُرابٍ في نِصابِ الأداهيرِ.

أوَمضَةٌ في الأقصى؟ بَل هويِّتُكَ اللبنانيَّةُ، قُل هي إستِنهاضُ العَدَمِ لِلبَيانِ، وَسَكبُ الخَصبِ في الرؤيا، وَكُنهُ الدُنى في الهَوى... وَسطَ صَقيعِ الوجودِ.

أهيَ صَرخَةُ: كُن، فَتَكون! بَل رَصفُ دُنيا في كَونٍ يَنبَريَ لَهيبَ إرتِباطٍ مِحراقٍ.

وَأنتَ، مَتى كُنتَهُ، هذا اللبنان، غَدَوتَ صورَتَهُ وَمِثالَهُ: حَقيقَةٌ هادِفَةٌ. هَدَفُها؟ لا مِن سَيرٍ مِنَ الوراءِ الى الأمامِ، طَيَّ الإيابِ، بَل مِن وَهجِ الأماميَّةِ، المُستَفيقَةِ مِنَ الخبايا الأوليَّةِ لِمُعانَدَةِ وضوحِ الإشراقِ وَغُموضِ الأبوابِ المُشَرَّعَةِ على مَصاريعَ الأجيالِ.

أجَل! ما كانَ لبنانُ لِيَستَكينَ في هَدأةِ ضَياعٍ وَلا في نَزوَةِ شِقاقٍ. تأمَّلهُ جَيِّداً، قَبلَ أن تَكونَهُ: أنتَ بِكافِرٍ لَهُ مَتى إرتَضَيتَ الأيَّام طوائفَ استنزاف للاماضٍ، وَدَورانَ لاشَيءَ في الكَيانِ. لا! لَيسَ لبنانُ لَكَ حَقيبَةَ إرتحالٍ، وَلا حيلَةَ غَلَبَةٍ، وَلا مَوتاً في إقتِرابٍ! هو لَكَ الكَينونَةُ التي تُوجِدُ الكيانَ، النارُ التي تَهدُرُ بَرقاً في السَماءِ وَعَواصِفَ على طُرُقِ العَلاءِ... تَلكَ التي سُنَّتُها أنَّها الى فَوق، فَوق، وَلَيسَ فيها إرتِواءٌ.

لوَجهِ الحَقيقَةِ

مِن دونِ هذا السِرِّ المُثَلَّثِ لِهُوَيَّتِكَ: في الكَينونَةِ، وَفي الهَديرِ، وَفي اللإرتِواءِ، لا مِعنى لهُوِيَّتِكَ، ولا قيمَةَ، وَلا وُجود. بِها، أنتَ تَحقيقُ أرضٍ، جُذورُها في السَماءِ وَلَها، وَفي عُروقِها تَسري مَصيرِيَّةُ دَمٍ مُرتَبِطٍ أبَداً بالحياةِ.

أأدرَكتَ، لِمَ يَتهافَتُ كَثيرونَ، إن لَم أقُل الجَميعُ، على مُحارَبَتِكَ في هُوِيَّتِكَ؟ إنَّ الإعترافَ بِسرِّها المُثَلَّثِ يُلغي ما يدَّعونَهُ جَميعُهُم مِن أنَ كُلّاً مِنهُم مُختارٌ لإنسانيَّةٍ شامِلَةٍ، هو أبعَدُ ما يَكونُ عَنها في جَوهَرِ الوِحدَةِ كَما في رِباطِ العِناقِ بَين الجَوهَرِ والوجودِ.

وَفي المُحَصِّلَةِ، هُم إن ألغوا هوِيَّتَكَ هَذِهِ، ومنحوكَ ما هُم، لا يُريدونَكَ إلَّا رَقماً لِميزانيَّاتِ مُمتَلَكاتِهِم، فائِضاً عَنهُ يُستَغنى في آنيَّاتِهِم. أتَرتَضي أن تَكونَ ضَحيَّةَ خِلافِهِم مَعَ حَقيقَتِكَ؟ لِوَجهِ تِلكَ الحَقيقَةَ، كُن أنتَ لا ضِعفها المَلعون، بَل رسوخ هَدَفها المُتَحَقِّقِ.