في "ذروة" موسم ​الانتخابات النيابية​، وعلى وقع استمرار "الحملات المكثّفة" بين المرشحين، و"المعارك" بين الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، "انتزع" حدثان غير انتخابيَّين، في الظاهر على الأقلّ، صدارة الاهتمام الداخلي، وربما الإقليمي، ليعيدا رسم "المخاوف" من "فوضى" قد تكون "بوابة" تطيير الاستحقاق الديمقراطي المرتقب.

ففي عطلة نهاية الأسبوع، استفاق اللبنانيون على "مأساة" جديدة، كانت عاصمة الشمال مركزًا لها، مع "قارب موت" آخر غرق في عرض البحر، مخلّفًا وراءه عددًا كبيرًا من الضحايا، بينهم أطفال، كانوا يهاجرون بطريقة غير نظامية، هربًا من الواقع، لتُسجَّل نتيجة ذلك حالة من الغليان والتوتر في ​مدينة طرابلس​، وسط "استنفار" أمني غير مسبوق.

أما في بداية الأسبوع الجديد، فاستفاق اللبنانيون على ​صواريخ​ جديدة، بدت "مجهولة"، تمّ إطلاقها من ​جنوب لبنان​ باتجاه ​إسرائيل​، في توقيتٍ طرح الكثير من علامات الاستفهام، ولو ربطه البعض بالتضييق الإسرائيلي المستمرّ على الفلسطينيّين، وما شهده المسجد الأقصى على امتداد الأسبوع الماضي من مواجهات واعتداءات وانتهاكات.

لكن، هل من "رابط" بين الحادثين، اللذين يأتيان على بعد ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات النيابية المقرّرة في منتصف أيار المقبل؟ هل هي مجرّد "صدفة"، أم أنّ هناك عمليًا من يحاول زرع "الفوضى"، قبيل الانتخابات، لغاية في نفس يعقوب؟ وقبل هذا وذاك، أيّ "تداعيات" محتملة للحادثين على الساحة الداخلية، إن وُجِدت؟.

بالنسبة إلى حادث "طرابلس"، الذي لم يكن الأول من نوعه، بعدما غرق قارب آخر في عرض البحر قبل أشهر، فقد بدا واضحًا أنّه خلق حالة "توتر" واسعة في المدينة، ارتبطت ربما ببعض "الشهادات" التي حاولت رمي كرة المسؤولية على القوات البحرية في ​الجيش اللبناني​، ما دفع الأخير إلى الكشف علنًا عن الملابسات، والحديث عن "الحمولة الزائدة" التي حملها الزورق، الذي لا يتّسع لأكثر من 10، فيما تخطّى عدد ركابه الـ75.

وإذا كانت الروايات "تضاربت" حول ملابسات ما جرى، رغم توضيحات قيادة الجيش، فإنّ اللافت كان دخول عدد من المسؤولين على خط "التوظيف السياسي" للحادث، من خلال بعض المواقف والتصريحات التي "صبّت الزيت على النار"، بخلفيّات قد تكون "شعبوية انتخابية" وفق كثيرين، لكنّ الأمور كادت تفلت معها عن السيطرة، لولا التعزيزات الأمنية التي استقدمها الجيش لضبط الوضع والحفاظ على الهدوء في عاصمة الشمال.

لكنّ "العِبرة" ممّا حدث تبقى "أبعد" من ملابسات يفترض بالتحقيق النزيه والشفاف الذي فُتح أن يفضي إليها، وإنما تكمن في "حقيقة" استعداد مواطنين لبنانيين، من طرابلس خصوصًا، إلى "المخاطرة بحياتهم" عبر خوض "مغامرة" الهجرة غير الشرعية عبر البحر، رغم كلّ التجارب المريرة التي شهدت عليها مثل هذه الرحلات على مرّ السنوات الماضية، خصوصًا بعدما دأب عليها اللاجئون السوريون الهاربون من "جحيم" الحرب في بلادهم.

ولأنّ طرابلس تحوّلت مرّة إلى عنوان أساسي للمأساة، بعدما أضحت على مرّ السنوات "رمزًا للبؤس والفقر والعوز"، على وقع سياسات "التهميش" المستمرّة بحقها، رغم وصول بعض المنتمين إليها إلى سدّة المسؤولية، فإنّ ما جرى قد يتيح إعادة تسليط الضوء على واقعها "المُرّ"، الذي يجعل من أهلها يقبلون على "الموت" ويفضّلونه على مواصلة العيش "بمذلّة وبلا كرامة"، كما يقول بعض أبنائها صراحةً، وعلى الهواء مباشرة.

أما "صواريخ" الجنوب "اللقيطة"، إن جاز التعبير، والتي استُتبِعت بقصف إسرائيلي للمناطق التي انطلقت منها، كما كان متوقَّعًا، فقصّتها مختلفة وفق ما يقول العارفون، ولو استُبعِد ضلوع "​حزب الله​" فيها، وهو الذي اعتاد على أن "يتبنّى" مباشرةً العمليات التي يقوم بها، في حين أنّ هذه العمليات قد تكون أشبه بالأعمال "الفردية" التي كان يلجأ إليها بعض المجموعات، ولا سيما من الفلسطينيين، على وقع أيّ توتر على خطّ القضية الفلسطينية.

وإذا كان هناك من ربط تلقائيًا بين إطلاق الصواريخ وما شهدته الأراضي المحتلة خلال الأسبوع المنصرم من "توترات"، خصوصًا في محيط المسجد الأقصى، حيث تكرّر مشهد المواجهات على وقع اقتحام المستوطنين شبه اليومي لباحاته على امتداد أسبوع عيد الفصح اليهودي، كما جاء بالتوازي مع عمليات إطلاق صواريخ مشابهة من قطاع غزة، فإنّ هناك من طرح أكثر من علامة استفهام حول "المخطّط" من خلف ذلك، وما إذا كان مجرد "حلقة" في سلسلة.

في هذا السياق، هناك من طرح علامات استفهام عن "التزامن" بين "الفوضى" في طرابلس على خلفية غرق الزورق، وإطلاق الصواريخ، ولا سيما أنّ هذا الإطلاق جاء أساسًا بعد "هدوء" الجبهات في القدس، لا في "ذروة اشتعالها"، وهناك من أعرب عن خشيته من أن تكون هذه الصواريخ "دفعة أولى" ليس إلا، في تكرار لـ"سيناريوهات" سبق أن شهد عليها اللبنانيون، ولو أنّ احتمالات الذهاب إلى "مواجهة مفتوحة" بنتيجتها لا تبدو كبيرة.

لا يعني ذلك وجوب "النوم على حرير"، فهناك من يخشى أن تكون مثل هذه الأحداث مقدّمة لـ"تطيير الانتخابات"، خصوصًا أنّ هذا الشعار لا يزال "يلازم" الكثير من القوى السياسية قبل ثلاثة أسابيع فقط من موعد الاستحقاق، وهو أمر لا يبعث على الطمأنينة مطلقًا، وكأنّ هناك من لا يزال "يراهن" على حدثٍ ما لتعطيل الاستحقاق بالحد الأدنى، وقد يكون "التوتر الأمني" الفرصة الوحيدة المُتاحة بعد "استنفاد" كل الخيارات الأخرى.

في النتيجة، يبقى الأكيد أنّ ما حدث في الشمال والجنوب يجب أن يقرع "جرس إنذار" حقيقي، بمعزل عن الانتخابات النيابية، لأنّه يؤشّر بالإصبع إلى "مشاكل وجودية" لا تزال مستمرّة، من قدرة أفراد على "تفجير الصراع"، من دون سابق إنذار، إلى "الانفجار الاجتماعي" الذي قد تكون طرابلس من جديد "بيئة خصبة" له، وقد عبّرت "مراكب الموت" عنه خير تعبير، فالناس ما عادت قادرة على "الصمود"، حتى إنّ "الموت" بات أهوَن عليها من ذلك!.