ثمّة قولٌ شائع في لبنان يقول "إذا انت مش معنا يعني إنت ضدنا". المنطق يفترض أن تختار بحرية مطلقة قناعاتك الوطنيّة، وتترجمها بصناديق الإقتراع. ومع بدء العدّ العكسي لمعركة ١٥ أيار، التي يعتبرها البعض معركة مصير "الكون"، ينشط المرشحون على كافة المحاور، والإتصالات تحت الطاولة وفوقها تسير بتواتر سريع، وعند كل الجهّات دون استثناء.

مواسم الأعياد عند كل الطوائف، كانت فرصة للتواصل مع الناخبين الذين أمّوا دور العبادة للصلاة والتعبّد، ولتقديم التهاني، ونشطت الأحاديث الإنتخابيّة من كل حدب وصوب. والملفت، على رأي بعض الأخوة الكهنة، على سبيل المثال لا الحصر، أن المفاتيح الإنتخابية عند العائلات والأحزاب والجمعيات، لم تضئ شمعة في الكنيسة، أو وضعوا مالاً في صندوقها، إنما كانوا ينشطون بقوة في ساحات الكنائس.

طبعًا لا الكاهن أو المطران يستطيع أن يمنع مجيء هؤلاء إلى الكنائس، إنما قد يمنع استعمال ساحاتها وصالاتها لنشاطات انتخابيّة عامة، ومهرجانات للمرشحين، أو إستغلال الكنيسة انتخابيًا.

بالعودة إلى موضوع الديمقراطية المزيّفة، التي نلمسها، في هذا البلد وعالمنا العربي، لمس اليد. فالسادس عشر من شهر أيار لن يكون كالخامس عشر منه، فهناك منتصرون سوف يتعاملون مع الخاسرين واتباعهم بعدائيّة وتشفٍّ لدرجة الإنتقام. فنحن في لبنان ندّعي الديمقراطية، في حين أن الرابح آتٍ للسيطرة والإستعلاء، والخاسر ذاهب إلى العتاب. وقد يحمّل بعض الخاسرين مسؤولية خسارتهم لهذا أو ذاك، والرابح سيجيّر انتصاره لمصلحة المصوّتين له ولماكينته الإنتخابية، وأما المصلحة العامة للبلد، التي تعلو كافّة المصالح، ليست في الحسبان. وفي هذا السياق لفتني ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دخل التاريخ وأصبح ثالث رئيس دولة فرنسي يتم انتخابه مرتين متواليتين، حيث قال: "لست رئيس فريق إنمّا رئيس الجميع".

أما عندنا فالرابح سيكون لجماعته، والخاسر سيعمل على وضع العصي في الدواليب، والنتيجة أنّ البلد سيدفع الثمن أكثر وأكثر، والمواطن الخاسر الأول والأخير.

نحن قوم ندّعي الديمقراطية، إنما في الواقع هي ديمقراطية مزيّفة، ونحن بعيدون عنها مسافات. نحن قوم لم نتربَّ على محبّة الوطن بل على محبة الشخص أو الزعيم والفكر والنهج. وقد تلاحظون معي ذلك، وبعض دعاة التغيير، هدفهم "قوم تَقْعُدْ محلَّك". لم اسمع خطابًا واحدًا في البرامج الإنتخابية يتحدث بلغة العقل والتسامح وخدمة الإنسان. لم اسمع أو اقرأ شعارًا واحدًا كيف نستطيع حلّ أزمة البلد معًا، فالكل يسعى إلى إقصاء الآخر، وكأنّ هذا الآخر من كوكب بعيد، فمعظم البرامج قائمة على التخوين والتهديد، والتصويب على هذا الحزب او ذاك، وفي قائمة البرامج الإنتخابيّة تعميم الفساد، وكأنّ الكل براء "من دم هذا الصدّيق". لم يطالعنا أحد ببرامج إنتخابيّة لمعالجة مشاكل البلد بشكل موضوعي وعلمي وسليم، بل معظم ما سمعناه تهجّمات وتهديدات وعنتريّات ونظريّات، والأخطر هو عودة الخطاب الطائفي وشد العصب المذهبي، ورفع سقف الكلام التحقيري والنابع عن أحقاد واضحة ومبيّتة، إلا عند قلّة قليلة.

للأسف نشهد على ديمقراطية مبنيّة على الحقد والإنتقام والتشفّي والإستغلال لدرجة التعصّب الأعمى.

نحن قومٌ ننجرف وراء غرائزنا ومعتقداتنا ومفاهيمنا الطائفية والحزبية والمناطقية والزبائنية. نحن قومٌ لم ولن نحترم يومًا حرّية الرأي وحرّية المعتقد وحرّية الإختيار، ولذلك انطلقت ما قبل الانتخابات، مسيرة إستغلال الناس من مفاتيح انتخابيّة، يبدو كأنّها تسعى لتجني ارباحًا على كل رأس تأخذ صوته في صندوق الإقتراع.

بالمحصّلة، أرجو وأصلّي أن تكون الانتخابات فرصة حقيقية هذه المرة، لكي يعبّر اللبناني عن رأيه بحرّية وديمقراطية، لأيّ لائحة مشاركة، وأن يضع في صندوق الإقتراع قناعاته لا قناعة الذين يستدرجونه لمصالحهم ومصالح مسخّريهم ومشغّليهم، ولمصلحة "البروباغندا"، وأن تعبر هذه الانتخابات دون وقوع دماء، وأن يصل أشخاص إلى البرلمان، سواء من المرشحين التقليديين أو من الوجوه الجديدة، حاملين على عاتقهم مصلحة الوطن، لا مصلحة أجندات خارجية. واسمح لنفسي القول، ليس كل مَن كان، عاطلًا كان، وليس بالضرورة كل مَن سيأتي، جيدًا سيكون، فهناك البعض مارسوا وكالتهم بضمير، ولم يتلوثوا بالكلّية، بينما أشك في أن بعض المستقتلين للوصول هدفهم فقط خلاص لبنان، وإن غدًا لناظره قريب. فهذا البلد لن يستقيم إلا عبر نظام جديد، وهذا يحصل بالتوافق بين كل شرائح الوطن. فالتجربة اثبتت، ما من أحد يستطيع إلغاء الآخر، مهما عظم حجمه وكبرت قوته.

ولذلك سنردد مع النبي داود، عشية هذا الإستحقاق: "نجّني من الدماء يا الله"، واحفظ يا رب بعنايتك هذا البلد وشعبه، وأن تكون الانتخابات المقبلة مناسبة ديمقراطية حقيقية لا مزيّفة، لخلاص لبنان، لا للقضاء على ما تبقى من لبنانيين.