لا يمكن أن يكون "عرضيًا" أبدًا أن يركّز مفتي الجمهورية ​الشيخ عبد اللطيف دريان​ في خطبة عيد الفطر على خطورة "الامتناع" عن المشاركة في ​الانتخابات النيابية​ التي تبدأ غدًا في دول الاغتراب، باعتباره "الوصفة السحرية لوصول الفاسدين السيئين إلى السلطة"، وأن يدعو استنادًا إلى ذلك لـ"مشاركة كثيفة" في عمليات الاقتراع، من خلال اختيار نواب صالحين وأكفاء.

ولا يمكن أن يكون "عبثيًا" أبدًا تفسير كلمة المفتي دريان هذه على أنّها "رسالة" موجّهة إلى رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ الذي لم يكتفِ بتعليق مشاركته في العمل السياسي، بل بدأ المحسوبون عليه بالدفع نحو "المقاطعة" بالمجمل، ترشيحًا واقتراعًا، وهو ما تجلى خصوصًا من خلال "الحرتقة" على كلّ "المتمرّدين" على قراره في الساحة السنية و"المستقبليّة".

ولا يمكن أن يكون مجرّد "صدفة" أن يستنفر "التيار الأزرق" لتبرير وجهة نظره بعد ساعات على كلام المفتي، من خلال منسّقه الإعلامي عبد السلام موسى الذي أطلق سلسلة تغريدات أكّدت المؤكد، لناحية أنّ تيار "المستقبل" يرفض أن يكون "شريكًا" في ما وصفها بـ"جريمة" تأمين "غطاء شرعي" لـ"​حزب الله​" يبحث عنه في صناديق الاقتراع.

ومع أنّ موسى نفسه عاد ليؤكد، بعد "الجدل" الذي أحدثته "تغريداته"، أنّ "مفتي الجمهورية فوق كل اعتبار"، وأنّ "أهل دار الفتوى أدرى بشعابهم"، محاولاً تحميل "القوات اللبنانية" مسؤولية ما، فإنّ السجال "غير المباشر" الذي دار بينهما يطرح أكثر من سؤال، فهل خسر الحريري مظلّة دار الفتوى بعد ​السعودية​؟ وهل حقّق أساسًا أهدافه من "المقاطعة" غير المفهومة؟!

لعلّ الإجابة على السؤال الثاني تختصر "الأزمة" التي يتخبّط خلفها "​تيار المستقبل​"، بعدما أصبح "وحيدًا" بشكل أو بآخر في قلب "صراع"، لم يعد أساسًا يملك "أدوات الإقناع" المناسبة له، خصوصًا في ظلّ دعوته الصريحة إلى "مقاطعة" الانتخابات، ولو أنّه "تعمّد" عدم إصدار أيّ موقف "رسمي" بهذا المعنى، في حين أنّ معظم من "تضامنوا" معه في المقام الأول، يحرصون على تأكيد وجوب "المشاركة الكثيفة" في الاستحقاق الانتخابيّ.

ويقول العارفون إنّ المشكلة في خطاب "المقاطعة" الذي يعتمده "المستقبل"، بشكل مستتر وخفيّ إلى حدّ بعيد، لا تكمن في مبدأ "المقاطعة" الذي يبقى حقًا بديهيًا مشروعًا لكلّ الناخبين، وقد سبق أن اعتُمِدت على نطاق واسع في انتخابات 1992 مثلاً رفضًا لقانون انتخاب "إقصائي"، وكان يمكن أن تُعتمَد من جديد في هذه الانتخابات على نطاق "وطني"، لو تمّ التوافق على ذلك، ضمن حملة "ضاغطة" لتغيير قانون الانتخاب المفصّل على قياس بعض القوى والشخصيات.

لكنّ مشكلة هذا الخطاب وفقًا لهؤلاء، تكمن في أنّ تيار "المستقبل" نفسه يعجز حتى الآن عن تبرير مثل هذه "المقاطعة"، خصوصًا أنّ حجّة عدم تأمين "الغطاء الشرعي" لـ"حزب الله" لا تبدو مقنعة، ليس فقط لأنّه أساسًا كان أول "المطبّعين" مع الحزب، ولكن قبل ذلك لأنّ تيار "المستقبل" بمثل هذه المقاطعة، كما يؤكد خصومه، يفعل العكس بالتحديد، ويسلّم الساحة لمعسكر الحزب بكلّ مرونة وأريحيّة، ومن دون حدّ أدنى من "المقاومة"، إن جاز التعبير.

يقود هذا السجال إلى سجال آخر يتمحور حول "الأهداف الحقيقية" لتيار "المستقبل" من مقاطعة الانتخابات، والتي يرى كثيرون أن "حزب الله" غير معنيّ بها من قريب أو بعيد، بل إنّ الأخير كان يفضّل أن يكون الحريري جزءًا من المعركة، ومن البرلمان المقبل. ويربط البعض المقاطعة "المستقبليّة"، التي جاءت بعد عجز "الشيخ سعد" عن تشكيل حكومة ما قبل الانتخابات رغم كلّ محاولاته لذلك، بما سُمّي بـ"الفيتو السعودي" الذي كان مفروضًا عليه، ولم يعد قادرًا على حجبه.

ولأنّ إعلان الحريري "عزوفه" عن خوض الشأن العام، بما فيه الاستحقاق الانتخابي، جاء في "ذروة" الأزمة اللبنانية الخليجية، وبعد كلّ التسريبات عن "استبداله" برئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي تحوّل "رجل الرياض في بيروت"، فإنّ هناك من قرأ في مقاطعته "رسالة" إلى السعودية بالدرجة الأولى، قوامها رفض "التحالف" مع جعجع، والذي تحوّل إلى "شرط سعودي" في مرحلة من المراحل لخوض الانتخابات.

أما "الرسالة" الثانية التي سعى الحريري لإيصالها، وفق ما يقول العارفون، فتكمن في أنّه "الزعيم الأوحد" سنيًا في لبنان، وأنّ بحث الرياض أو غيرها عن "بديل" له يبقى بلا جدوى، وهو لذلك دفع ولا يزال باتجاه نسبة اقتراع متدنية في المناطق السنية، للقول إنّ الجمهور السنّي "متعاطف" معه، بحيث يكرّس نفسه "زعيمًا" من خارج البرلمان، يفوق في قوته وحيثياته التمثيلية الفريق الممثَّل في البرلمان.

لكنّ الحريري اصطدم في هذا "المسعى" بأكثر من مشكلة، إذ إنّ نسبة الاقتراع التي سُجّلت مثلاً في انتخابات 2018 لم تكن عالية، ما يجعل "زعامته" أساسًا موضع شكّ، ويضع "عزوفه" في مرتبة "الخوف" من تراجع نسبة التأييد له، في حين أنّ ما "فاجأه" كان أنّ نسبة "الإقبال" على الترشح مثلاً إلى الانتخابات "فاق التوقعات"، حتى إنّ المناطق السنية شهدت أكبر أعداد من المرشحين، من "الطامحين" الذين استغلوا غياب الحريري.

بهذا المعنى، يمكن أن يُفهَم نَفَس "الحرتقة" الذي يستخدمه رئيس تيار "المستقبل" في وجه المرشحين الخارجين من فلك "التيار الأزرق"، ويُفهَم بالتالي منطق "الهجوم" على بعض الأحزاب والشخصيات ممّن يصفهم بـ"المتمرّدين"، على غرار رئيس الحكومة الأسبق ​فؤاد السنيورة​، الساعي لملء "الفراغ"، باعتبار أنّه يضرب "في مقتل" الأهداف التي وضعها الحريري أساسًا لمقاطعته، والتي أفرِغت من مضمونها إلى حدّ بعيد.

يقول البعض إنّ المرحلة "الفاصلة" عن الانتخابات قد تحمل بعد العديد من المفاجآت، ومن بينها خروج الحريري بموقف "نوعيّ" مغاير لما سبق، وإن بدا ذلك مستبعَدًا وفق ما يؤكّد القياديّون "المستقبليّون" الصامدون. لكن، حتى ذلك الحين، يبدو أنّ ما يعيشه تيار "المستقبل" من فوضى وارتباك، تجعله في "اشتباك" مع رعاته قبل خصومه، وصولاً إلى حدّ ترويج البعض لشعار تفضيل وصول "حزب الله" على "قليلي الوفاء"، يعبّر عن أزمة "وجودية" حقيقية من شأنها أن تضع مستقبل "المستقبل" على المحكّ!.