نحنُ في زمَنِ "البنديكستاريون"[1]، والأحدُ الثَّاني بعدَ الفِصحِ هُو أَحَدُ حامِلاتِ الطّيب.

تميَّزت حامِلاتُ الطّيبِ بِشجاعَتِهِنّ. فَهُنَّ لم يَخشَين الحُرّاسَ الّذينَ كانُوا يضبُطُونَ قَبرَ يَسوع، كما أنَّهُنَّ لم يَتراجَعْنَ أَمامَ الحَجرِ الضَّخمِ الّذي كان يُغلِقُ بَابَه.

لم تَظهرْ حامِلاتُ الطّيبِ فَجأةً، بل رَافَقْنَ يَسوعَ قبلًا[2] في تَبشيرِه، وبَقينَ وفيَّاتٍ لَهُ، فَحَضَرنَ صَلبَهُ، وتابَعنَ دَفنَهُ وقَبرَهُ وشَهِدنَ لِقيامَتِه.

قَصدنَ القَبرَ يَحمِلنَ طِيبًا أَرضِيًّا ليُطَيِّبنَ المُخَلِّصَ[3]، فطَيَّبَهُنَّ الرَّبُّ بِطيبِهِ القِياميّ، وأرسَلهُنَّ كالمَلائِكَةِ ليُبَشِّرنَ الرُّسلَ بِقيامَتِهِ، بَعدَ أن ظَهَرَ لَهُنَّ خارِجَ القَبر. والِدَةُ الإلَهِ[4] كانت واحِدَةً مِنهُنَّ، والرَّبُّ ظَهَرَ لها أوَّلًا بَعدَ قِيامَته.

جاءت حامِلاتُ الطِّيبِ إلى القَبرِ عِندَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوع (الأحد)، والفَجرُ انكِشَافُ ظُلمَةِ اللّيلِ عن نُورِ الصَّباح. هذا تَمامًا ما حَصَل: لَيلُ المَوتِ صَارَ خَلفَنا، وأَشرَقَ عَلينا نُورُ القِيامَةِ البَهيّ.

نَحنُ أمَامَ سِفرِ تَكوينٍ جَدِيد: فِي العَهدِ القَديمِ "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ[5]"، والآنَ في العَهدِ الجَديدِ، الأرضُ خَرِبَةٌ من جَرَّاءِ الخَطيئَةِ، ورُوحُها يَرُفُّ، فقامَ المَسيحُ والنورُ بَزغَ مِن القَبر، وأَعادَ صُورَةَ اللهِ في الإنسانِ بعدَ أن أُظلِمَت بسقوطه.

صَحيحٌ أنّنا نُقيمُ خِدمَ "البنديكستاريون" كُلَّ سَنَةٍ، ولكِن لا يَبطُلُ جَديدُها، لأنَّنا نَحنُ الَّذين نَتجَدَّد، وبِالتَّالي القيامةُ لَيسَت قِصَّةً قَديمَةً، بل هِيَ دَعوتُنا لِنَقومَ قَبلَ رُقادِنا مِن قَبرِ خَطايانا خَليقَةً جَديدَة، وألا نَبقَى قابِعينَ أمواتًا في الظُّلمَةِ والخَوفِ وغِيابِ السَّلامِ الدَّاخِلي.

قبلَ العَودَةِ إلى حَامِلاتِ الطّيبِ، سَنُسَلِّطُ الضَّوءَ أكثَرَ، في هَذِهِ المَقالَةِ وفي المَقالاتِ اللّاحِقَة، على الفَنِّ الكَنَسيّ لِكَونِهِ رافَقَ المَسيحِيَّةَ مُنذُ بِدايَتِها وهو شَاهِدٌ لها، وسَنُحاوِلُ، بِنِعمَةِ اللهِ، أن نَغرِفَ مِن هذا الفنِّ كُنوزًا لا تُقدَّر بِثَمَن.

أمّا بَعدُ، فَشجَاعَةُ حامِلاتِ الطّيبِ جَعلَتهُنَّ مِثالًا عَظِيمًا للمُؤمِنينَ في الكَنيسَةِ، الّذين بِدَورِهِم لم يَتأخَّرُوا لَحظَةً عن تَخليدِ ذِكراهُنَّ بِنُقوشٍ ورُسومَاتٍ تَعودُ إلى القُرونِ الأُولى للمَسيحِيَّة، فكانَ مَجيئُهُنَّ القبرَ بِمَثابَةِ أقدَمِ تَصويرٍ لِحَدَثِ القِيامَةِ. واللّاهوتُ الشَّرقيُّ يَعتَمِدُ تصويرَين تَعبِيرًا عَنِ القِيامَة: الأوَّل مَجيءُ النِّسوةِ إلى القَبرِ الفَارِغ، والثَّاني نُزولُ الرَّبِّ إلى الجَحيمِ، ويُكتَبُ عليه Anastasis أي القِيامَة.

سنَتنَاوَلُ الآن الحَديثَ عن لَوحَتَين رومَانِيَّتَين مِنَ العَاجِ، يَعودُ تاريخُهما إلى حَوالي العام ٤٠٠م.

اللوحَةُ الاُولى[6] (A1) تَضِمُّ حَدَثَين: في القِسمِ السُّفليّ قِيامَةُ الربِّ، وفي القِسمِ العُلويّ صُعودُهُ إلى السَّماوَات.

إنَّ مَشهَدَ القِيامَةِ، في هَذهِ اللَّوحَةِ، كِنايَةٌ عَن ثَلاثِ نِساءٍ يَرتدين رِداءً Palla يَستُرُنَ رُؤوسَهُنَّ إشارَةً إلى العِفَّة، ويَتكلَّمنَ مَعَ مَلاكٍ يُبارِكُهنَّ ويَجلِسُ أمَامَ القَبرِ الّذي هوَ عِبارةٌ عن قَاعِدَةٍ مُكَعَّبَةِ الشَّكلِ، وبِجانِبِ البَابِ المُغلَقِ ذي المِصراعَين عِشٌّ صَغيرٌ يَظهَرُ فيهِ نَقشٌ للشَّكلِ الكامِلِ لِيَسوعَ مَلفُوفًا بِالأقمِطَة. ونُشاهِدُ في الجُزءِ العُلويّ مِنَ الضَّريحِ بِناءً مُستَدِيرًا Tholos يَرتَكِزُ على عَواميد، ونُشاهِدُ دوائرَ في داخِلِها مَنحُوتاتٌ نِصفيَّةٌ لأشخَاصٍ مِن سُلالَةِ يَسوعَ البَشَريّة. وهُناكَ شَجَرَةُ زَيتُونٍ مُثمِرَةٌ تَرتَفِعُ فَوقَ الضَّريحِ، وعُصفُوران يَأكُلانِ مِنها إشارَةً إلى الحَياة والفردوس.

على جَانِبَي الضَّريحِ جُنديَّان رُومَانِيَّان. واحدٌ يَقِفُ مَذهُولًا ورُمحُهُ بِجَانِبِه، والآخَرُ يَستُرُ وَجهَهُ بِيَدَيهِ مُتَّكِئًا على الضَّريح. كأنّنا بِذَلك نَقرأُ ما كتبَهُ الإنجِيليُّ متّى: "ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَات[7]".

اللَّوحَةُ الثَّانِية[8] (A2) طُولِيَّةٌ تَضُمُّ حادِثَتَين قِيامِيَّتَين في مَشهَدَين مُنفَصِلَين.

في المَشهَدِ العُلويّ نَرى مَلاكًا يَرمُزُ إلى متَّى الإنجِيليَّ وثَورًا يَرمُزُ إلى الإنجِيليّ لُوقا. القَبرُ مُستَدِيرٌ تَعلُوهُ قُبَّةٌ، وأمَامَهُ جُندِيَّانِ مُنحَنيَانِ إلى الأرض. وخَلفَ الجُندِيَّ على يَسارِ القَبرِ، شَجَرةٌ مُثمِرَةٌ رَمزٌ للحَيَاة.

المَشهَدُ الثَّاني يَصهَرُ لِقاءَين بِلِقاءٍ واحِد: ظُهورُ المَلاكِ لِمَريمَ المَجدَلِيَّةِ ومَريمَ الأُخرى الّتي هِيَ وَالِدَةُ الإلَه، ولِقاءُ يَسوعَ بِهِما وهُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ بِالقيامة، وقَالَ لَهُما: "«سَلاَمٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَه[9]".

نُشاهِدُ في الخَلفِ القَبرَ، وقد نُقِشَ على بِابِهِ المَفتوحِ (ذي المِصراعَين) حَدَثُ إقامَةِ الرَّبِّ لِلَعازَرَ، ويُسوعُ يُكَلِّمُ زَكَّا.

الشَّخصُ الجالِسُ على الحَجَرِ هُوَ الرَّبُّ، وخَلفَ رَأسِهِ هَالَةٌ. يُبارِكُ المَريَمَتَين بِيَدِهِ اليُمنَى، ويَحمِلُ بِيَدِهِ اليُسرَى لِفافَةً ترمُزُ إلى الرِّسالَةِ الخَلاصِيَّةِ الّتي تَمَّمَها بِتَجَسُّدِهِ وصَلبِهِ وقِيامَتِهِ مِن أجلِنا، وتَحقُّقِ النُّبوءَاتِ فِيه.

اللوحَةُ هي أَّحَدُ وَجهَي الغلافِ الخَارجيّ للكِتابِ الّذي تُدوَّنُ فيهِ أَسماءُ الأحياءِ والرَّاقدينَ الّذينَ يُذكَرونَ في القُدّاسِ الإلَهيّ (الذبتيخا Diptyque / Diptych). هو كِتابٌ يُوضَعُ على المَذبح. أمَّا الوَجهُ الآخَرُ للغلافِ فمفقود، ويُرَجَّحُ أن يَكونَ عليه رَمزا الإنجيليَّين الآخَرَين، نسرٌ لِيوحنّا وأَسَدٌ لمَرقس، بالإضَافَةِ إلى مَشهَدَين يَتعلَّقانِ بِالقِيامَة.

في الخُلاصَةِ، إنَّ النِّسوَةَ بَشَّرنَ العَالَمَ بِالحَياة.

كُلُّ امرأةٍ أُمٌّ، بِيولُوجِيًّا أَم رُوحِيًّا، أَو الإثنَينِ مَعًا. وفَرحَةُ حامِلاتِ الطّيبِ بِالقِيامَةِ جَعَلَتهُنَّ يُولِدنَ العَالَمَ مِن جَديدٍ مِن رَحِمٍ قِياميّ. غَبطَتُهُنَّ بِقِيامَةِ المَسيحِ فَتَحَت كُلَّ أبوابِ القُلوبِ المُغلَقَةِ، وأزالَتِ الخَوفَ مِنَ النُّفُوس.

لقَد أَتَينَ القَبرَ مَعَ الطِّيبِ لأنَّ رائِحَةَ المَوتِ نَتِنَةٌ، أمَّا الحَياةُ فرائِحَتَها جَميلَة، فَكَم بِالحَرِيِّ أنَّ المَوضُوعَ في القَبرِ مُعطِي الحَياة.

هُوَ الّذي يُطَيِّبُنا ويَجعَلُنا نَفوحُ طِيبًا مَلَكُوتِيًّا إن عُدنا إلى ذَواتِنا، وجَعلنَاهُ السيِّدَ الوَحيدَ لِحَياتِنا.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.. La vie sent bon

[1] البنديكستاريون أي الخمسين. يَبدأُ هذا الزَّمنُ مَعَ أحَدِ الفِصحِ المَجيدِ، ويَنتهي مَعَ أَحدِ جَميعِ القِدّيسِين الذي يأتي بعد عِيد العَنصَرَةِ المَجيدُ. والعنصرة تأتي بَعدَ خَمسينَ يَومًا مِنَ الفِصح، ومِن هنا أخَذَ هذا الزَّمنُ اسمَه. وأيضًا يَتخَلَّلُهُ عيدُ الصُّعودِ الإلَهيّ (بعد ٤٠ يومًا مِن الفِصح).

[2] مرقس ٤١:١٥

[3] كَونَهُنَّ لم يَستَطِعنَ إتمامَ ذَلِكَ مَساءَ الجُمعَة بَعدَ الصَّلب.

[4] مَريمُ الأُخرى (متى ٦١:٢٧ ومتى١:٢٨) ومَريمُ أمُّ يعقوبَ الصَّغيرِ ويُوسِي (مرقس ٤٠:١٥) هِيَ والِدَةُ الإلهِ مريم. ويَعقُوبُ ويُوسِي هُما أولادُ يُوسُفَ خَطيبِها الأرمَلِ مِن زَواجٍ سابق.

[5] تكوين ١:١-٣

[6] Bamberg Avory - Reidersche Tafel - 18.7 cm × 11.5 cm × 0.6-0.7 cm - Bavarian National Museum; Munich

[7] متى ٤:٢٨

[8] Ivory, 30.7 x 13.4 cm - Diptych - Trivulzio Collection, Museo delle Arti Decorative/Castello Sforzesco, Milan

[9] متى ٩:٢٨