في مجال العلوم الطبية، هناك ما يعرف بابحاث الـcase studies اي دراسة الحالات المرضية من ملاحظات عينية على مريض واحد اواكثر أثناء علاجه او أثناء مراقبة تطور المرض لديه،قد تُجمع عدة دراسات في دراسة واحدة كسلسلة لحالات ملفتة لجديدٍ فيها، هذا النوع من الدراسات يقدم دعوة للغوص في مسألة ما ولدراستها بتجارب سريرية على أعداد أكبر من الناس لغرض الوصول الى خلاصات يقينية تفيد بحلٍ أو جواب. وعلى هذا المنوال، ولكن في مضمار أدبي شابه تماثل المنطلق بإبداع في الطرح القصصي و السردي، سارت الكاتبة رنا الصيفي في روايتها عطر الشوك، فجمعت قصصاً وحكاياتٍ من نبض الواقع، في كتاب ينفض الغبار عن مشهد حالات اجتماعية بتفاصيل دقيقة تقف خلف فساد العلاقة بين زوجين أو بين الأهل و الأبناء، وكله بعين الأنثى و قلبها و لسانها إن كزوجة، أو عشيقة او ابنة. هي رواية باسلوب غير معهود، قد يُرى فيه تجديداً في نوع الرواية الهادفة.

لا بد أن تتملك قارئ الرواية دهشة ممزوجة بالأسف حين يستشعر، و ربما للمرة الأولى، بالحاجات التي يتوقف عليها رضى المرأة أوتعاستها، حاجات لا يُلق الرجال العاديون بالاً لها في العادة، حاجات أبدعت الكاتبة في التصويب عليها من بعيد وباتجاهات لا مباشرة، فلا ذكر لتوصيات صريحة ولا للائحة مطالب، ففي ردات الفعل تظهر الحاجة، وتفهم من نتائج وجودها وآثارها على العلاقات الحية بحسب احداث الرواية وقصصها، هي حاجات تصطاد عقل القارئ فيستنتجها استنتاجاً لازماً و بسهولة متعمدة من حبكة السرد مع ذكاء الطرح واسلوبه وفي تسلسل الحكاية. تكشف الكاتبة عن اختلالات في العلاقة بين المرأة والرجل. اختلالات كانت لتُعتادَ حتى تصير من مسلمات الحياة لولا أن رفضتها وسلطت الضوء عليها، هي من واقع الحياة المعاصرة حيث يندر التدوين الأدبي الهادف، فجمعت بأسماءٍ مستعارةٍ شخصيات حقيقية في مواقف واقعية كأمثلة صادمة عما تريد الإضاءة عليه. إنه لمن المدهش ان تكشف هذه الرواية عن مدى جهل الرجل بالمقدار الحقيقي لحساسية المرأة ومدى تعلقها بالفطرة الانسانية، هي التي أرادت لحياتها أن تضج وجوداً بهوية لا تلغيها الشراكة حتى تعطي الرجل، وعن طيب خاطر، كل شئ ، و فقط كتعبيرٍ عن الرضى والحب لا كواجب مفروض عليها أو متوقع منها. ومن المخيف أن الرجل في هذه الرواية، لطالما اعتقد أن جنوح المرأة للسلام و للضعف الاختياري أمامه كزوج أو قريب هو جهل منها وضعف ودونية لا إخلاصاً للمثال او حلماً بالحب وقرباناً للوصول اليه، لقد منح المجتمع رجلها طوقاً وسلاحاً سيشهره في وجهها منذ الليلة الأولى وطوال حياتهما معاً، وهو سلاح حق تقييمها وامتحانها الدائم في ملائمتها لصورة المرأة كما في خياله وفهمه لا كما هي كفرد أنعم الله عليها بوجود مماثل لوجوده، صورة رسمتها ريشة الشرائع بألوان الموروثات، فما إن تتزوج المرأة حتى يتحتم عليها إلغاء هويتها كفرد والارتحال عن عالم ذاتها، أي عن الـ'هي' الكاملة الى عالم الـ'هو' لتصبح من معالم وجود زوجها دون أن يكون العكس صحيحاً، إنها المرأة التي حلمت برفيق عمر لتتلذذ بالتعبير له عن كم هائل من الحب والعطاء في ذاتها الإنسانية وما تكتنفه هذه الـ'هي' من فرادة الشخصية والطباع دون انتظار منها لثمن بالمقابل وإنما اعترافاً وبعض الثناء الذي فيه من التحبب مايكفي ضميرها لترضى أنها به تتردد بذهاب وإياب على الجسور الواصلة بين براءة الطفولة و المثال، هو الإحساس بالأمان غاية ما تصبو اليه مع الرجل. حقاً، كم هو ظالم وبخيل وجاهل عن قصد هذا الرجل القابع بين سطور الحكايات في رواية عطر الشوك، وإن كان فيها بعض القسوة على الرجل الذي لم يعد محبوباً من امرأته التي عرّته من الأعذار حتى وإن جهد بعناء، في بلد كلبنان، لتأمين احتياجاتها مادياً بغفلة عما يدور في ثنايا نفسها من صراعات.

لاشك في أن أنماط الحياة المستجدة قد أرخت بظلالها على العلاقات بين الأفراد وزادتها تعقيداً على حساب مبدأ وحدة الحال والشراكة العادلة التي تقوم على الحب الواضح المعالم مع صلاح النوايا والاعتراف بحق الآخر في أن يكون له، او لها، موقفاً خاصاً من الحياة بكل تفاصيلها. في هذه الرواية الصادمة تعداد للفجوات الانسانية التي خلفها تراكم التشريعات والمفاهيم، فجوات تنتج من انحراف القوانين عن اهدافها الانسانية وتُفرض فرضاً من دون اكتراث لأثرها الاجتماعي، وما أكثر هذه القوانين في لبنان وما اثقلها عندما تلتقي مع الديني، بحيث يصبح القانون المدني اسير القداسة او خادماً لها فلا يمكن معارضته أو إبطاله ليقسو عند تطبيقه خالياً من اهم المبادئ الأساسية للأديان، لاسيما منها الرحمة ثم العدالة، وهكذا، يمضي التشريع مولداً واقعاً ومفاهيمَ اجتماعية تحت ظلاله فيها مساحات للقهر والظلم، ومخلفاً مآسٍ وآلاماً صامتةً باذعان غالباً ما تكون لدى الطرف الأكثر ضعفاً، أي لدى المرأة التي تُبتز بالعاطفة وبالمادة لترضخ وتستمر في نيرها بتجريد مستتر من انسانيتها، وإلا ما معنى أن يكون الحوار بين الرجل والمرأة غير ممكن او ميئوس منه في هكذا أحوال؟.

في رواية عطر الشوك دعوة للتمرد ولكن بضوابط وروابط، لا تريد الكاتبة هدم الهيكل ولا تسعى لحلول موقتة، إنها تدعو المرأة، وربما الرجل ايضاً، الى اعادة تكوين الذات، الى نظرة نقدية للمكنونات النفسية، لمراحل الطفولة فالمراهقة فسن الرشد وما رافقهم من مبادئ تربوية ومفاهيم اجتماعية لا تتلائم مع المتغيرات، في ربط زماني مدهش يأخذنا الى قِدَم التشريعات التي لم تعد تصلح لعتاقتها، لكنها مع ذلك، لم تراع في انتقاء الحكايات أثر اختلاف المستوى الثقافي بين رجل وآخر فكان الرجل هو نفسه، الفظٌ احياناً والمهذب في احايين أخر وكلاهما فاشل مع المرأة على الدوام، لعلها لم تكن بوارد التصنيف او إطلاق الأحكام نهائية عن الرجل، لكنها بالتأكيد ألقت اليه دعوة فيكتور هوغو لفهم مؤسسة الزواج، ثم المرأة، بالقلب لا بالعقل.

يسكن الشيطان في التفاصيل، ولكن في رواية عطر الشوك أُستبدِل الشيطانُ في حكاياتها بالملائكة التي ستهدي الرجل مفاتيحاً لأبواب جديدة تُفتح على عقل المرأة وقلبها وتطلعه على ما تخفيه عن الرجل فيهما، لا بأس بالرواية كمرشد جديد إلى فهم المرأة وإسعادها ومحاربة الفشل في العلاقة بينهما. إنها رواية مرحب بها في زمن ندرة الأعمال الأدبية الهادفة والجادة لبنانياً.

*عطر الشوك، للكاتبة رنا الصيفي، صدرت عن عن دار نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان 2020.