مساء الثامن من أيَّار، عيد الإنجيليّ يوحنا الرسول شفيعه وعيد ميلاد القديس شربل، توقَّفَ قلبُ الأباتي يوحنا تابت... ولملم عطرَه وتوارى في غمام الأبد.

ارتَمَى قَلَمُه وَحزنت أوراقُه على الغياب إذ أغمضَ عينيه عن صفحاتٍ لمْ تَكتمل بعدَ حياةٍ ذاخرةٍ بالجهاد أقبل عليها من موقعِ الواثِقِ والـمُتَمَكِّن... ملأ كأسَها وَشَرِبَها حتى الثَّمالة، مُخَلِّفاً بغيابه، فراغاً لا يملأه غيره، تاركِاً لنا إرثاً ليتورجيّاً عظيماً مُذهلا تخشع الرؤوسُ أمامه وتنحني إجلالا.

الحديث عن الأباتي تابت إغراءٌ ومُغامرة. إغراءٌ لأنَّهُ يجد مادةً غزيرةً للكلام، ومغامرة لأنَّ الأباتي مَعينُ الليتورجيا والكنيسة ولأنه فوق مساحة الكلمات.

إنَّ الكلامَ عن قدس الأباتي يوحنا تابت، بالإضافة إلى أنَّه واجبٌ مقدَّس علينا، هو عرفانُ جميل لرهبانيّته ولأصدقائه الكثر، وهو ضرورةٌ كنسيّة في الدرجة الأولى، لأنَّه عاش الليتورجيا وعيَّشها للآخرين، بالبحث والتنقيب والترجمة والتحليل والمؤلّفات والمقالات والمؤتمرات، وبالثوابت والقواعد التي ساهم في وضعها، ثُمَّ أعطاها لتلاميذه ومعها أعطاهم من روحه وذهنيّته وذوقه الليتورجيّ، مُدخِلا إيَّاها إلى كلِّ كنيسةٍ وبيتٍ وعائلةٍ مارونيّة، فأسعَدَ أجيالَنا بالصلوات والـمُتعيِّدات التي أبرزها في حُلَلِها الـمُمَيَّزة الـمُمتازة. كيف لا يُثيبه جنّاتٍ الدَّيانُ العادِل وقد كرَّسَ العمرَ للبحث عن الصلواتِ والرّتب البيعيّة وتنظيمِها وتأوينها لتبقى أحلَى وأجمل.

لا تستوعبهُ الكلمات، لأنَّه الليتورجيّ الـمُتَجدِّد الخلاَّق دائماً وأبداً. إنَّه الراهب الـمُنضَبِط على تحرُّر، الأصيل على تجدُّد، الصامت على بلاغة. في كلِّ مراحل سنيّه الطوال، احتفظ بقدرةٍ عجيبةٍ على نبشِ أقدمِ النصوص الليتورجيّة وتحليلِها وترجمتها وربطها بعضها ببعض، والخلوص إلى استنتاجاتٍ صائبةٍ، ولا أغالي أبداً إذا قلت أنَّه كان رؤيويّاً يستشرف صورةَ الغد من خلال هذه وتلك، راصِداً الـمُعطيات والتفاصيل.

كان الأباتي تابت الليتورجيّ على حدِّ التعبير المأثور: "مالئ الدنيا وشاغل الناس" فيما يخصّ عمل التجديد والإصلاح الليتورجيّ.

خطيبٌ إذا خطب، ساحرٌ إذا نظر، عملاقٌ إذا وقف، فضيلٌ إذا صلَّى، جليلٌ إذا حلَّ، ثقيفٌ إذا علَّم، بليغٌ إذا تكلًّم أو روى. وكيف لا يغري من كانت له أصالة هذه الشمائل وعراقة هذه الشِيَم؟.

كيف لا يغري واطلالته المهيبة وثقافته الواسعة كانت وستبقى ملءَ كلِّ عينٍ وكلِّ قلبٍ وكلِّ خاطرٍ.

راهبٌ حجمه لا يُقاس بهذه السهولة، وأنَّى لنا حصرُ صِفاته والـمُعطيات في قوالبَ من مَقَاطِعٍ وألفاظ.

إنَّ الحديثَ عنه يُرهِبُ العُقلاء والعارفين، فالانزلاق محظورٌ في الـمَتاهة. كالكنزِ المرصودِ كان، يُرهِقُ البحث عنه ويُغري السعيَ في آن. لذلك كلماتُنا في هذه المناسبة الأليمة قوامُها ثلاث ميزاتٍ في راهب: الفضيلة والعلم والقيادة. وحدهم العظماء تفرَّدوا بهذه الشمائل، وقدس الأباتي من مصافِ هؤلاءِ العظماء، نُحيِّيه حاضِراً على الغِياب.

إن قدسَ الأباتي يوحنا تابت، الرئيس العام الأسبق للرهبانية اللبنانية المارونية، كان عالـِماً ورائداً من علماءِ وروادِ الليتورجيِّين الشرقيين عامةً والموارنة خاصةً. رافَقَهُ هاجسُ الإصلاح منذ البدايات، إذ لم يتركْ حقلاً ليتورجيّاً إلا وخاضَهُ درساً، وعلماً، وبحثاً، وتمحيصاً. لقد حَمَلَ، في قلبِهِ وفكرِهِ، هَمَّ الليتورجيا في رهبانيتِهِ وكنيستِهِ، مُساهِماً مساهمةً فعَّالةً ورائدةً في عمليةِ التجديد الليتورجيّ منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين. وقد باشر منذ بداية القرن الحادي والعشرين بنشر «سلسلة المصادر الليتورجيّة المارونيّة» التي تهدف إلى نشر جميع النصوص الليتورجيّة المارونية كاملة كما وردت في أقدم المخطوطات المعروفة. وقد أتحفنا حتى الآن، وخلال عدَّة سنوات، بخمسين مُجلداً تقريباً. إنه مشروع ضخم وبالغ الأهمية يرمي إلى جمع الأصول الليتورجيّة، بهدف تحقيقها وإثباتها.

أنْ تكونَ مُصلِحاً ليتورجياً في كنيستنا المارونيّة يعني أنك فارسٌ، مِقدامٌ، مُستبسلٌ، مِقحامٌ، مُستعدٌ للعملِ والبحثِ والتنقيبِ عن أُصول وهويَّة الليتورجيّة المارونيّة.

قدس الأباتي، شمَّر عن ساعديه والتزم ورشة عمل مُضنِيَة، فكان الـمُصلِح الليتورجيّ الرائد.

نعم كان من أبرع المعلِّمين الرياديّين في كلّية اللاهوت ومعهد الليتورجيا والـمَثَل الأعلى في السلوك الحياتيّ والعِلم والعَمل.

ان تكون مُصلِحاً ليتورجيّاً يعني التخلّي الكلّي عن الذات واللَّذات والتَّنكُر لها والتَّرفُع عن التَّسكُّع في الضَلال والاختلاء بالهدفِ الأوحد والأبقى الذي هو المصدر وإليه المآل.

معلِّمي في كليّة اللاهوت ومديري في معهد الليتورجيا ورئيسي العام في الرهبانيَة ومَثَلي الأعلى في السلوك الحياتيّ والرهبانيّ على دروب الأيام.

كان الأباتي يوحنا تابت في أواخر الستينات، مديراً وراعيَ الإخوة الدارسين في جامعة الروح القدس الكسليك، طبعَهم بشخصيّته الـمُحِبَّة المؤدّبة.

أسَّسَ على مطلِّ السبعينات معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس الكسليك، وما أن تَوَلَّى رئاسة الجامعة، حتى سَارَعَ مباشرةً إلى إصلاحٍ ليتورجيٍّ ملحوظ، فأخرج دراسات الليتورجيّة المارونيّة من تَعَثُّرِها في المجالَين اللاهوتيّ والليتورجيّ، وأطلق فِكراً لاهوتيّاً ليتورجيّاً مُنطلقاً من البحث التحليليّ لمحتوى المخطوطات القديمة وصولاً إلى تحقيق وتحديث وإثبات وإبراز الفرض الماروني في دورته الطقسيّة السنويّة، القداس الماروني في كلِّ عناصره وعبر تطوّره حتى يومنا، جميع طقوس الأسرار والتكريسات والتبريكات والرّتب والزيَّاحات والـمُتعيِّدات على أنواعها.

تعرفت عليه في أوائل الثمانينات ولم أكن أعرفُ يومها كِنْهَ روحانيّة الليتورجيّة المارونيّة في العُمقِ وأنا فتى يافع من العمر على المطلّ، طالعني الأباتي تابت بقامَتِهِ الممشوقة وخطوِهِ الرشيق وهدوئه الوادع وإِرشاده الفاعل كأنّه ملاك مُتَلَحِّفٌ بجسد إنسان. قرأت آنذاك، رغم أنّي كنت لا أجيد فنَّ قراءة السماويّات، أنّ الرجل ينطوي على مسحةِ طوباويّةِ القديسين. طبعني لا شعوريّا بوقاره، فتهيّبتُ حضورَ ناسوتِهِ الآسر وأحسستُ بِسَرَيانِ ماويَّةِ لاهوتِهِ وليتورجيّتِهِ تخفُقُ في مجاري دمي. كان يرسُمُ بهيئتِهِ الأخّاذة مُختصِراً وجوه رهبان قُدامى سَبَقوه كشربل والحرديني والأخ اسطفان وغيرهم. خمسُ سنواتٍ في دير وجامعة الروح القدس الكسليك معاً: حياةٌ رهبانيّة وصلاةٌ، وتعليمٌ، ودروسٌ، ووعظٌ، ومؤتمرات، ومُحاضرات، وقدوة. أتخيله جالِساً على كُرسيه في الصف يلقي علينا ثقافة قناعات اختزنها من إنجيل مُعلمِ الـمُعلمين وتقليدٍ رهبانيٍّ حضاريٍّ عريق وتاريخِ كنيسةٍ زاخرٍ بالليتورجيّات الشرقيّة وتراثٍ منهل لكلِّ عطشان. كان الأباتي تابت صورة مُشِعَّة تعكُسُ وجهَ المسيح الجميل وتنبئ عن مسيرةِ الآباءِ الاوائِل الذين حملوا مشعلَ البِشارة إلى الآخرين. كان حكايةً بليغةً تجاورُ الأسطورة إِلاَّ أنه كان حقيقةً بيننا عاش وأدار وعلّم.

في المصلى كان ارتقاء يَشدُّنا إلى الأسمى ويذوب بنجواه مُستكملاً الرسالة في التعليم الليتورجيّ الـمُلِمّ بجوانب العيش الكنسيّ الوَرِع. زَرَعَ سكوتَه القيِّم فينا والدراسات الليتورجيّة والتضحيات عِلمًا وعملا، وأطلقنا لتحصيل العلوم اللاهوتيّة والليتورجيّة أكثر وأكثر واضعاً فينا نعمة المناعة ضدّ أمراضِ العالم والعصر. لكنّنا لم نبلغ مراقيه لأنَّه متجردٌ خالعٌ متقشّفٌ نافضٌ غبارَ الأرض عن مداسِ قدميه تحت حرارة شمس الأزليّ القابض على الخلود والزوال. تَقَلَّبَ في مراكز السلطة الرهبانيّة وأصبح أباً ورئيساً عاماً. وبعد انتهاء عهده، وَحَد في دير مار بطرس وبولس-العذرا واعتزل مُنصرفاً للتعبُّد والغرق في التأمّل بمتروكاتٍ قيِّمةٍ مُخاطبا الحبيبَ بلغة لم نتقنْها نحن أبناء التراب المنغمسين بهموم الحياة ومشاغلها الشاقةُ الصعبة، من خلال ترجمة ونشر نصوص أقدم المخطوطات المارونيّة.

لم يخطر في بالي أنني سأكتب في غِنَى مزاياه والشمائل كلمتي هذه الفقيرة عرفانا وذكرى. وخوفاً من جحودٍ، أقول فيه إنني لن أنساه لأنّه دامغٌ في ذاكرتي.

الأباتي تابت الراهب اللبناني، هو من القافلة التي اتخذ من تراث الليتورجيا المارونيّة وعمليّة تجديدها مناسك انطلاق وجسر عبور إلى السماء. تصوّف ليشاهد الاشراق النورانيّ من خلال كثافة المادّة الليتورجيّة ونزح مرّات، شأن كلّ متنسك، عن أديمه إلى ما فوق مدار السديم. في زمن التطوّر السريع والتكنولوجيا المذهلة والغوايات المعروضة عبر وسائل الاعلام، هل بمستطاع إنسان عاديّ أنْ ينسلخَ عن واقعِهِ بهذه السهولة وينخرطَ في الاتِّجاه المعاكِس؟ إنَّ طريقَ الله هي للأبطال والروّاد فقط، لذلك الأباتي تابت شاء الريادة وعشق أساليب البطولة الإنجيليّة والليتورجيّة التي تمرَّسَ عليهما منذ الصِغَر، فاندفع مُشاكِساً بشريتَه راضياً بالقهر الذاتيّ مهما عَنَا. جاهَدَ الجهادَ الحَسَن وَحَفَظَ وديعتَهُ وأتَمَّ سعيَهُ، وها هو ينتظر إكليلَ المجد الذي سيُجازيه به الديَّان العادل لينالَ إكليلَ المجدِ وحسنَ الـمُجازاة. رَحَلَ إلى دار الوعد إلى أحضان المخلص ليسمعَ الترحيبَ الملوكيّ: هَلُمَّ أيها العبد الامين أُدخلْ فرحَ سيّدك.

وأخيراً، طالما كانت رغبته أنْ يظلَّ معهدُ الليتورجيا وأسرتُه منارةً للكنيسة وللرهبانيّة وللجامعة، نعده أنّنا على العهد مُستَمرّون وباقون.

نَمْ هنيئاً في دار النعيم في ظلال فادينا ومعلّمنا يسوع القائم. لأنّك كنت عبداً صالحاً وأميناً، ستبقى ذكراك في قلوبنا ما دامت هذه القلوب تنبضُ محبةً ووفاءً وتقديراً.

نودعك وأنت تغادرنا إلى جنة النور حيث مواكب الأصفياء والسعداء يهلّلون بإنشاد متواصل: قدّوس قدّوس قدّوس الرّب الإله الصباؤوت. لك أن تذوب ما تشاء في بقاء الله، ولنا أنْ نستودعَك صلواتِنا إلى يوم اللقاء الشامل.

*مدير معهد الليتورجيا جامعة الروح القدس الكسليك