في الساعات الأخيرة التي تسبق فتح صناديق الاقتراع أمام اللبنانيين في كلّ المناطق، للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات النيابية، وتزامنًا مع "الصمت الانتخابي" الذي فرضه القانون، لمنح المرشحين والناخبين، على حدّ سواء، "استراحة محارب"، إن جاز التعبير، قد تكون "وقفة تأمّل" مفيدة مع الذات، لتقييم الواقع "الانتخابي" الذي انحرف برأي البعض عن مساره.

قد يحلو للسلطة المنظّمة للانتخابات أن "تحتفي" بحصولها، باعتبار أنّ هذا الأمر البسيط، والذي يبقى من واجباتها، أضحى "إنجازًا" بحدّ ذاته، وقد "تتباهى" أيضًا بتجاوزها مراحلها الأولى، من خلال انتخابات المغتربين وموظفي الأقلام، رغم "الشوائب" التي اعترتها، وربما الثغرات "الخطيرة" التي تكشّفت الخميس، مع "جهل" الموظفين بـ"بديهيات" آلية الاقتراع.

لكن، أبعد من "التنظيم"، ثمّة الكثير الذي يُحكى عن طبيعة المشهد الانتخابي، الذي كان يفترض أن يلامس "هموم" الناس، الذين ما عادوا قادرين على "الصمود" في بلد "سلب" منهم "جنى العمر"، فإذا بالاستقطاب "المجنون" يطغى عليه، أقلّه في الأيام الأخيرة، حيث ارتفع سقف الخطاب، ليتبادل المرشحون الاتهامات، ولكن أيضًا "التخوين والتحقير".

فكيف تحوّلت الانتخابات اللبنانية، الأولى منذ الانهيار الاقتصادي غير المسبوق، والذي صنّفته مؤسسات دولية بأحد أسوأ الانهيارات في العالم تاريخيًا، إلى انتخابات "سياسية"، بل إلى "استفتاء" على بعض القضايا الخلافية؟ من يتحمّل مسؤولية "تسييس" هذه الانتخابات، وحرفها عن مسارها، واستحضر على خطّها ملفات المقاومة والسلاح والإستراتيجيا وغير ذلك؟!.

بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون تفصيلاً عل الإطلاق طغيان الملف السياسيّ على الخطابات الانتخابية في الأسبوع الأخير، فالأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي حشد كلّ طاقته هذا الأسبوع، بمهرجانات جماهيرية مناطقية، حرص في معرض دعوة الجماهير إلى التصويت للوائحه، على تصوير السباق إلى ساحة النجمة على أنه "حرب تموز السياسية"، منبّهًا المؤيدين "المتردّدين" من السقوط في فخّ "إسقاط" المقاومة العسكرية، وفق وصفه.

وقبل السيد نصر الله وبعده، ثمّة رجال دين وسياسيون محسوبون على الخط نفسه، خرجوا ليحوّلوا الانتخابات إلى معركة على "رأس" المقاومة، ملمّحين إلى أنّ الخصوم، من الأحزاب التقليدية أو القوى التغييرية، لا تسعى سوى لتنفيذ القرار 1559، بل هناك من أقرّ ضمنًا بوجود "فاسدين" على لوائح الحزب، من خلال الدعوة إلى التمييز بين ما وصفها بـ"مفسدة صغرى" و"مفسدة كبرى"، ما يعني غضّ النظر عن بعض الأسماء "المستفزة" على اللوائح.

لكنّ "حزب الله" لم يكن وحده من أدخل السياسة في صلب المعركة، بل إنّ هناك من "يدافع" عنه، باعتبار أنّ "أطروحته" هذه جاءت كـ"ردّة فعل"، بعدما اختارت بعض القوى أن "تصوّب" على الحزب في معرض معاركها الانتخابية، لاستجرار "العطف" ربما. ومن هؤلاء حزب "القوات اللبنانية" الذي وضع إسقاط السلاح في صدارة حملته الانتخابية، وبعض المستقلين الذين اعتبروا أنّ هذا السلاح هو "أصل البلاء" في لبنان، وبالتالي "أساس" كل المشاكل.

وبعيدًا عن السلاح، كان "التخوين المتبادل" سمة بارزة للاستقطاب السياسي الانتخابي، فنشطت الكثير من الحملات على مرشحين مناوئين للثنائي الشيعي مثلاً، خصوصًا في الجنوب، عبر تصويرهم على أنّهم "عملاء وخونة"، لدرجة "تركيب" صورة مزيّفة لأحد المرشحين، وهو يخطب، وخلفه العلم الإسرائيلي، ما طرح أساسًا الكثير من علامات الاستفهام حول الجانب "الأخلاقي" في مثل هذه المنافسة "غير المتكافئة".

ولم يقتصر الخطاب "التخويني" على فريق دون غيره، مع انتشار مقولات مثيرة للجدل، في سياق المعارك "الحامية" في المناطق المسيحية مثلاً، كقول رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مثلاً إنّ من سيصوّت لـ"التيار الوطني الحر" يصوّت عمليًا لـ"حزب الله"، وإن استند إلى قول الأخير إنه "يخوض معارك حلفائه"، ليأتي الردّ "الصاعق" قبل ساعات من رئيس "التيار" الوزير السابق جبران باسيل بأنّ من يصوّت لـ"القوات" يقترع عمليًا لإسرائيل وحلفائها.

وسط هذا النوع من الخلافات والمزايدات، وما يمكن وصفه من دون تردّد بالاستقطاب "المجنون"، ثمّة أسئلة تُطرَح عن موقع الناس فعلاً في "أجندة" السياسيّين والمرشحين، فإذا كان سلاح "حزب الله"بندًا خلافيًا منذ الأزل، فلماذا تستحضره القوى المتنافسة اليوم، مغيّبة في المقابل مشاكل الناس الحقيقية، من أموالهم المنهوبة، إلى عملتهم المنهارة، وما يترتب عليها من غلاء فاحش، ناهيك عن الهجرة الجماعية للشباب، والبطالة المتفاقمة؟.

قد يكون "السرّ" في الإجابة على هذا السؤال أنّ القوى السياسية، التي تتأهّب للمزيد من الإجراءات "القاسية" على الناس بعد الانتخابات، لا تملك ما تستطيع أن تقوله للناس، بعدما جفّ حبر الوعود وثبت زيفها، ولذلك فهي تلجأ إلى "إثارة الغرائز والمشاعر"، من خلال اللعب على "الوتر الحساس"، لدفع الناس، بمن فيهم أولئك الناقمين على الطبقة السياسية برمّتها، للتصويت سياسيًا، لا معيشيًا، بعد اقتناعهم بوجود "مؤامرة" تستهدف "الزعيم".

هكذا، يمكن القول بلا تردّد إنّ هذه الانتخابات أفرغت من مضمونها، بعدما كان ينبغي أن تكون عبارة عن "ثورة حقيقية" في صناديق الاقتراع، ترجمة لـ"نفور" المحازبين قبل غيرهم، لكنّها تحوّلت في نهاية المطاف إلى مجرّد "معركة سياسية هامشية"، سينقاد إليها الناس، ليصوّتوا للأحزاب والقوى نفسها، إما بحجّة غياب "البديل"، أو لأنّ "المؤامرة كبيرة"، على أن يعودوا إلى هواية "النقّ" بدءًا من الإثنين، وربما بدرجات أكبر بكثير...