انتهت ​الانتخابات النيابية​ التي شدّد عليها الخارج، واحتضنها الداخل على مضض، وبتنا في ما بعد الانتخابات ونتائجها. صحيح كانت هناك بعض المفاجآت، ولكنها لم تكن على حجم الوطن او الظرف الذي تمرّ به البلاد، ولم يحتج الامر الى الكثير من "تنبؤ المستقبل" لمعرفة ان ما حصل لا يعدو كونه "ابرة مورفين" جمّدت الكلام والتحركات والمواقف على اكثر من صعيد، فيما فتحت المجال واسعاً امام الحملات والحماوة الانتخابية.

منذ ما قبل السابعة من مساء 15 ايار، لم يتوقف الكلام عن الفائزين، ولم يعترف الخاسرون بما حصل لهم الا متأخراً، غير ان القراءة الاولية تظهر ان ما يقال في الاعلام لا يمكن مطابقته على أمر الواقع، وان ما عرفناه سابقاً تم تأكيده، لجهة المحافظة على الصورة نفسها للمجلس النيابي انما بشخصيات جديدة نسبياً، فما حصل هو تغيير في النسب والاحجام فقط وليس كما حاول الجميع الترويج له لجهة التغيير الجذري للبرلمان، وهذه هي الخسارة الاولى.

هلّل ما اتفق على تسميته بـ"المجتمع المدني" لـ"خرقه" بعض اللوائح وهو أمر جيد، ولكن الخسارة ان هذا المجتمع لم يتمكّن من ايصال اعداد من المرشحين الى تحت القبة البرلمانية، وخرقه ببعض الاسماء كان متوقعاً من قبل الجميع خصوصاً في ظلّ الاعتماد على الناخبين في دول العالم، انّما لا يجب ان ننسى ان هذه الاصوات فعلت فعلها بسبب تدنّي نسبة الاقتراع في لبنان بشكل عام، بحيث لم تتعدَّ الـ42 في المئة، وهو رقم متدنٍّ جداً اذا ما تمت مقارنته بالسقف الذي وضع للانتخابات والتعويل عليها لانقاذ لبنان من اسوأ مرحلة غير عسكرية يمرّ بها في تاريخه، فكانت نسبة الناخبين المغتربين توازي تقريباً 10 في المئة من نسبة الناخبين المحليين، وهو رقم مهمّ، ولكنّه مع ذلك لم يؤثّر على المشهد العام للمجلس النيابي الجديد. و"تبجّح" "المجتمع المدني" بايصال ما يقارب 10 نواب الى المجلس ليس بانجاز لسببين رئيسيين: الاول ان لا احد يضمن ان هؤلاء النواب سيقومون بتغيير امور عمليّة، وهم سيضطرّون الى التحالف مع نوّاب من احزاب وتيارات سياسية ليتم سماع صوتهم، والا سيكونون بمثابة "ضيف شرف". أمّا السبب الثاني فيكمن في أنّ احداً لا يضمن ان يتكاتف هؤلاء النواب مع بعضهم البعض ويتفقون على رؤية موحّدة حول مشاريع قوانين وقوانين سيكون على المجلس البتّ بها، او حيال استحقاقات انتخابيّة او تعيينات تقع على عاتق المجلس.

كالعادة، رفعت الاحزاب والتيارات المسيحيّة شعار "عمرو ما يرجع خيّك"، وتناتشت كالوحوش الكاسرة الاصوات والمقاعد النّيابية، والقاسم المشترك الوحيد بينها كان اتّفاقها على انّها نجحت في هذا الامتحان، فيما الواقع انّها كلها سقطت ايضاً. وبعد ان تأرجحت أرقام ​التيار الوطني الحر​ّو​القوات اللبنانية​ على امتلاك الحصة الاكبر من التمثيل المسيحي في البرلمان، مع تغيير في الأعداد. فهل ستكون القوّات مع نوّابها قادرة على فرض ما تريده؟ وهل سيجلس نواب التيار مكتوفي الايدي امام تحرّكات نوّاب القوات، او سيتعاونون معهم؟ لا حاجة للاجابة على هذا السؤال لأنّه معروف سلفاً. وكأننا في "سباق البدل" الذي يقام في الالعاب الاولمبيّة، حيث يتسلّم العدّاء العصا من عدّاء آخر لاكمال السباق، وهذا ما يحصل بالفعل إذ بعد تغيّر المقاعد، انقلبت الادوار التي لن تتغيّر حتماً. وها إن القوات قد بدأت تعلن أنها لن تقبل بحكومة وحدة وطنيّة، ولا بالجلوس مع حزب الله على طاولة واحدة، فيما الواقع والمنطق يكسر هذه المقولة لأنّه لا مفرّ من هذا الخيار مهما تأخّر الوقت...

أثبت الجناح السياسي الشيعي أنّه الاكثر ثباتاً في الانتخابات، وانّ "خرقه" لم يكن مستحيلاً، إلا انّه لم يكن دراماتيكياً ايضاً، وفي هذا الصدد لا يمكن الحديث عن تغيير. اما عند السنّة فحديث آخر، لانّ النائب سعد الحريري اثبت انّه لا يزال له حضور على الارض مع تيّاره، وان النسب المتدنيّة التي سجّلها الناخبون السنّة كان لها تأثير على "حركة المقاعد البرلمانيّة" في اكثر من منطقة، فيما تأكّد غياب بهاء الحريري التّام عن المشهد السياسي اللبناني لفترة غير قصيرة. ومن المؤكد انه لم يعد بامكان احد ادّعاء التمثيل السنّي في البرلمان، لانّ الاصوات تشتّتت والحضور بات موزّعاً على اكثر من شخصية سنّية.

في المحصّلة، كلهم اعلنوا انهم فازوا، ولكن في الحقيقة كلهم خسروا، لانّ شيئاً لن يتغيّر في المشهدين البرلماني والعام، والخاسر الاكبر الأكيد هو لبنان الذي سيبقى ضعيفاً الى حدّ تقاذفه من قبل رياح السياسة الاقليمية والدولية وبأيدٍ محلية. مبروك لمن دخل حديثاً الى مجلس النواب وعلى أمل ان يكون ملقّحاً ضد اوبئة الفساد والهدر واللامبالاة والمصالح الشخصيّة، مع التذكير بأنّ مثل هذا اللقاح يجب ان يعطى اكثر من مرة في السنة، ويبقى الامل في ان يكون متوافراً ايضاً وهناك من يرغب في أخذه بالاصل.