بدأت ملامح الاشتباك السياسي تظهر في لبنان حول صيغة الحكومة المفترض تشكيلها، وذلك مع الاختلاف العمودي في مقاربة الموضوع بين من يطالبون بتشكيل حكومة من الأكثرية ومن يعتبرون أنه يفترض تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع جميع الأطراف الممثلة في البرلمان اللبناني، وذلك على غرار معظم الحكومات السابقة في لبنان، وهو ما من شأنه أن يشكل سبباً أساسياً في تأخير تأليف الحكومة إلى أجل غير مسمى.

ويأتي حزب "القوات اللبنانية" في طليعة المطالبين بحكومة أكثرية، وهو الذي يعتبر أن كتلته النيابية هي الأكبر بين الأحزاب المسيحية، إضافة إلى أنه يشكل مع حلفاء له الأكثرية النيابية، مقابل رفع "حزب الله" مطلب حكومة الوحدة الوطنية، وهو الأمر الذي من المرجح أن تتقاطع معه مواقف حلفائه، في وقت لم يعلن رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ حتى الآن أي موقف في هذا الاتجاه، بانتظار مسار الاستحقاقات المقبلة التي تبدأ من انتخاب رئيس للبرلمان ونائب له وهيئة المجلس، ثم تكليف رئيس للحكومة ليبني على الشيء مقتضاه، بحسب ما تشير إليه مصادر مطلعة على موقف الرئاسة. وتقول المصادر لـ"الشرق الأوسط": "الرئيس عون يرصد ردود الفعل والمواقف وهو لا يملك أي توجه محسوم في هذا الإطار حتى الآن بانتظار استكمال الإجراءات الدستورية والاستحقاقات المقبلة على أن يكون هذا الأمر محور بحث أيضاً بينه وبين الرئيس المكلف".

بدورها، اكدت مصادر قيادية في "القوات" أن الانتخابات النيابية أفرزت أكثرية جديدة تضم، إضافة إلى كتلة "القوات"، كتل "حزب الكتائب اللبنانية" والحزب التقدمي الاشتراكي وما سمتها "الحالة السنية الجديدة" (النواب السنة المعارضين لـ"حزب الله")، إضافة إلى النواب الذين يمثلون المجموعات التغييرية الذين يشكلون جميعهم 66 نائباً.

واوضحت لـ"الشرق الأوسط": "نريد حكومة أكثرية انطلاقاً من أن الفريق الآخر حكم في أكثر من حكومة من لون واحد وكل هذه الحكومات وصلت إلى حائط مسدود ولم تتمكن من إخراج لبنان من أزمته وهذا نتيجة أداء هذا الفريق ورفضه الذهاب إلى خطوات إصلاحية انطلاقاً من مصالحه".

من هنا شددت المصادر على أنه "لا يمكن الذهاب إلى حكومة شراكة مع هذا الفريق وهو الذي يشكل إحدى العقبات الأساسية لإخراج لبنان من أزمته... وبالتالي عليه الآن فتح المجال أمام حكومة أكثرية للبدء بطريق الإصلاح بعد الانتخابات التي أفرزت أكثرية بحيث يتحول البرلمان لمساحة مراقبة والحكومة لأداة تنفيذية لأنه لا يمكن الاستمرار بمنطق مشروعين سياسيين متناقضين تحت سقف واحد"، مؤكدة أن "هذا الخيار الوحيد الذي يمكن أن يضع البلد على سكة الإنقاذ".

الرئيس عون

الى ذلك، نقل زوار رئيس الجمهورية عنه في ما يتعلق بانتخاب رئيس المجلس أنه "لا يتدخل في هذا الأمر، والقرار متروك للنواب، وهو لا يزال يتمسك بمبدأ فصل السلطات". وأكد عون، بحسب صحيفة "الاخبار"، بانه على عكس ما يشاع عن صعوبة تشكيل حكومة، أن "هناك حكومة وهناك انتخابات رئاسية (...) الجميع ظلّ يشكك بحصول الانتخابات حتى آخر يوم، ثم حصلت. وهكذا دواليك في استحقاق الحكومة والرئاسة".

وأكد هؤلاء أن عون يصرّ على تشكيل الحكومة في أسرع وقت، ولا يضع شروطاً حتى بما خصّ اسم رئيس الحكومة، ولا يمانع فكرة تجديد الثقة بالحكومة الحالية في حال موافقة القوى السياسية على ذلك.

ونقل الزوار عن عون خشيته من أن يكون هناك من يريد إبقاء الفراغ ومحاولة تهشيم صورته من خلال فوضى اجتماعية واقتصادية تنجم عن عدم تشكيل الحكومة الجديدة. مع ذلِك، لا تبدو الطريق معبدة أمام الحكومة، وخصوصاً أن لا اتفاق على اسم لبديل من ميقاتي حتى الآن، ولا ضمن نواب "المجتمع المدني" الذين يؤيد بعضهم تسمية السفير نواف سلام، وهو ما "لن يكون مقبولاً" من الفريق الآخر وتحديداً لدى حزب الله.

لعبة الارقام

على انّ النافر وسط هذا المشهد، هو انهماك المكونات الداخلية في لعبة الأرقام والأحجام والمكايدات وتسجيل النقاط على هذا الطرف او ذاك، ويتجلّى ذلك بوضوح في مواقف بعض الكتل الكبرى في المجلس الجديد، متجاهلين ما تفرضه مرحلة ما بعد الانتخابات من أولويات باتت شديدة الإلحاح، في ظل الانهيار المتسارع على خط الأزمة اقتصادياً ومالياً ومعيشياً، بينما في المقابل ترصد بوضوح حركة ديبلوماسية مكثفة لسفراء دول صديقة وشقيقة، تسعى إلى تصويب اهتمامات المكونات السياسية في اتجاه الشراكة في بلورة العلاجات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته.

وهذا التوجّه، وبحسب معلومات موثوقة لـ"الجمهورية"، لفت إليه مختلف السفراء الاوروبيين في لبنان، بتأكيدهم على انّ مرحلة ما بعد الانتخابات تفرض تغييراً في النمط السياسي والحكومي الذي كان سائداً ما قبل الانتخابات، وتشكيل حكومة بمستوى المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان، توفي بكل مسؤولية، بالالتزامات التي قطعها لبنان للمجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية، وتضع لبنان على سكة الإصلاحات والإجراءات التي تمكّنه من استرداد ثقة المجتمع الدولي به، وتعجّل في عقد برنامج التعاون بين لبنان وصندوق النقد الدولي، وتمهّد إلى فتح باب المساعدات من مصادر ومؤسسات دولية أخرى.

وفي هذا السياق، يندرج ما أكّد عليه السفير المصري في لبنان ياسر علوي، قارناً ذلك بنصيحة الى المكوّنات السياسية في لبنان بتغليب مصلحة لبنان واللبنانيين، والمسارعة الى اعتماد الخطوات الإنقاذية والإصلاحيّة وعدم إضاعة الوقت.

عصر جديد!

وبحسب مصادر المعلومات الموثوقة، فإنّ نتائج الانتخابات كانت محل تقييم في "جلسة دبلوماسية" شارك فيها عدد من السّفراء، وخلص الى قراءة ايجابية لهذه النتائج التي حملت ما وصف بتغيير نوعي في مجلس النواب، أتاح دخول وجوه جديدة الى المجلس، قد تساهم في إعادة تصويب وجهة ال​سياسة​ وإدارة الحكم في لبنان التي كانت سائدة، وتعزيز الرقابة والمحاسبة والدفع في اتجاه الاصلاحات.

ووفق معلومات "الجمهورية"، انّ لقاء عُقد خلال اليومين الماضيين بين مجموعة من كبار رجال الاعمال والاقتصاد مع سفير دولة اوروبية كبرى، قدّم خلاله السفير المذكور مقاربة للمشهد اللبناني، ما قبل الانتخابات وما بعدها، لافتاً الى أنّ "مشكلة لبنان الأساسية تأتت من الصراعات السياسية وصراع المصالح، وكذلك من أهواء بعض السياسيين، التي تسببت بالأزمة في لبنان، وفاقمتها الى المستوى الصعب الذي بلغته".

وبحسب ما نُقل عن السفير المذكور، فإنّ "مكمن الخلل الأساسي والجوهري في لبنان هو "عدم الكفاءة"، إن في إدارة الدولة او على مستوى قيادة إدارات الدولة. وهذا واقع بات من الملحّ ان يتغيّر ويزول".

وخاطب محدّثيه قائلاً: "الانتخابات النيابية خلقت واقعاً جديداً، وأستطيع ان أقول بكلّ ثقة انّ عليكم في لبنان ان تفهموا أنكم دخلتم في عصر جديد للبنان، نأمل ان يكون الافضل لهذا البلد. وبحسب متطلبات العصر الجديد ينبغي أن يكون الأداء على مستوى كلّ السلطات. وهذا ما ينبغي ان يتبدّى مع تشكيل حكومة جديدة محصّنة بكفاءات موثوقة، نؤكّد على اللبنانيين التعجيل فيها، ورفد مهمّتها الإنقاذية بالتفاف داخلي واسع حولها، والأهم صدقية الالتزام بهذه المهمة".

وفي نهاية هذا اللقاء، بحسب المعلومات المؤكّدة، فإنّ السفير الاوروبي أبلغ الحاضرين في هذا اللقاء، بأنّ "دول الاتحاد الاوروبي، وعلى الرغم مما فرضه الحدث الروسي- الأوكراني من إرباكات وتطورات وتبديل في الأولويات، الّا انّه ما زال يضع لبنان في صدارة اهتماماته، وثمة خطوات ملموسة تعكس هذا الاهتمام، سيشهدها لبنان في الفترة المقبلة. الّا انّ المسؤولية الأساس تبقى ملقاة على اللبنانيين، في تغيير السياسات السابقة، وفي إثبات صدقية التوجّه لإنهاء الأزمة، والتي توجب عليهم الدخول من أي شقوق تلوح امامهم لمصلحة لبنان وإنقاذ اللبنانيين من معاناتهم الصعبة".