عندما عاد السيّد المسيح إلى الناصرة، لم يألفه أهل تلك المحلّة، ولذلك لم يقبلوه. فيسوع خرج منها نجارًا وعاد إليها معلمًا صانعًا للمعجزات. في كلّ مكان حطّ رحاله، كان مكرَّمًا، بينما الناصرة لم تعرف قيمته، لأن أهلها نظروا إلى وجهه البشري، لا إلى عظمة رسالته وألوهيته.

طباع أهل الناصرة لا زالت قائمة في نفوس وعقول كثر من أهل هذا العالم. وما ينطبق على الناصري، من الطبيعي أن ينطبق على كثر من أبنائه، من أهل الأرض، الذين لا ينالون الكرامة من ذويهم وعشيرتهم ومن أقرب المقرّبين منهم. ما زادني قناعة، بما تقدّم، ما نشهده في هذه البلاد، من قلّة وفاء ونكران للجميل وتهجّمات وافتراءات وتهكّمات وشائعات، على كافة الصعد والمستويات.

اذا تطّرقنا إلى شؤون السماء، فلنسأل أنفسنا عمّا اذا تجاوبنا مع دعوة المسيح لنا في أن نتبعه ونعمل بمشيئته، ونكون حقًا تلاميذه. هل سألنا أنفسنا يومًا إن كنّا أوفياء لدمائه الطاهرة التي سكبها على الصليب، لأجل أن يمحو صكّ خطايانا؟ هل عقدنا العزم على أن نعتنق كلامه دون أي تحفّظ؟ ندخل الكنائس دون أن ننزع عنّا إنساننا العتيق، ونخرج منها غير أُمناء، لا للكلمة ولا للكأس المقدّسة! أعطانا دمه مجّانًا، ولم نتلقّف محبته لنا. تنازل عن عرشه السماوي، وأخذ طبيعتنا، ونحن نطعن به كل يوم، ولم نقدّر ما فعله لأجلنا! فتح لنا باب السماء، ونحن أغلقناها مجدّدًا، بسبب كبريائنا وتعجرفنا وحقدنا والحرية التي منحنا إيّاها.

هذا واقع أهل الأرض، الذين يشربون من بئر الناس ويرمون بها حجارة. هذا ما تشهده رعايا وكنائس، وهذا ما نشهده في وطننا ومدننا وقرانا. كم من إنسان نال نعمة من أيادٍ معطاءة وتنكّر لها؟ وكم من شخص بذل نفسه لأجل الآخرين؟ وعند أوّل مناسبة استحقاقيّة لم يعرفه أولئك ولم يتعرّفوا إليه، لا سيّما في الضيقات والمحن والشدائد والأحزان، وتآمروا عليه وتنكّروا له. كثر جاؤوا ليخدموا أهلهم وناسهم وأوطانهم، وعند أول تحدٍ يبادلهم هؤلاء بالغدر وطول اللسان والإضطهاد. إلا أن تعزية هؤلاء، تكون باحتمال الاضطهادات من أجل الحياة النقية، ومن أجل طاعة المسيح ووصاياه، عندها يحظى أولئك بأمجاد ملكوت السماوات التي لا تنتهي. هذه تعزية كلّ راعٍ أو خادم أو عامل أو أب وأمٍّ في هذا العالم، يشعر بأن لا كرامة له عند شعبه وذويه.

قد تتفاجأ بأشخاص أكرمتهم، ولكن يصدمك تمرّدهم. الله يرانا، ويعرف نوايا شعبه، "أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ"(إرمياء 17: 10). لذلك، عندما يرفع الشعب الدعاء إلى الله، من أجل الحصول على طلباتهم، عليهم أولاً أن يسألوه تغيير قلوبهم. هذا باب المعجزات الذي يفتحه الرّب، عندما يشعر أننا نطلب ان نكون أبناء النور والنهار، لا أبناء الظلمة والغدر وقلّة الوفاء.

السنوات الثلاث الأخيرة، التي مرّت علينا، فضحت المستور وحقيقة الناس والوجوه بقوّة. كشفت عورات أهل الأرض، وأظهرت مدى الوساخة التي يمكن أن يتحلّى بها بعض الموبئين والمتنمرين والغدّارين. كما وبمكان ما، أظهرت طيبة أناس كثر، شرّعوا للّه أبوابهم. الإنسان ذات المعدن الطّيب، وابن البيت، لا يتغيّر تحت أيّ ظرف، أما المراؤون فيتلونون كالحيّات عند كل ظرف.

كلّ شخص يشعر بإهانة ذوي القربى، فليتذكّر ما واجهه يسوع من أقربائه، الذين قالوا عنه "إنه مختلٌ"(مرقس ٣: ٢١)، وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ ٱلَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: "إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ! وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ" (مرقس ٣: ٢٢). أين نحن من عظمة يسوع الذي واجه كلّ هذه الافتراءات وانتصر عليها بما حققّه بقيامته. لا تعجبوا يا أخوة من الذين يستهزؤون بكم ويتنكّرون لكرامتكم، تذكّروا قول المسيح عن نفسه: "لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ"(مرقس ٦: ٤).

لم يصنع يسوع المعجزات في الناصرة لان أهلها لم يؤمنوا به. إن المعجزة تحصل عندما يتغير القلب ويتحوّل من سلطان الظلمة الى مملكة النور(كولوسي ١٣: ١) عندها يدخل يسوع القلب ويصبح موطنه ومسكنا له بالحب والإيمان والرجاء، فتتساوى كرامة الإنسان بكرامة الله، ولا يعثّره تصرفات البشر وكلامهم فيما بعد.