أظهر الجدل الذي دار بين النواب، خلال جلسة انتخاب الرئيس ونائب الرئيس أمس، حالة من الضياع تعكس جهلاً واضحاً بتاريخ الممارسة الدستورية في لبنان وكيفية تطوّر الأحكام القانونية المتعلقة بهذا الموضوع. وقد تمحور الخلاف حول كيفية احتساب الغالبية المطلقة من أجل تحديد الفائز: هل تحتسب انطلاقاً من مجموع عدد أعضاء النواب أي 128 نائباً، أو من مجموع الذين شاركوا في الاقتراع من دون المتغيبين، أو الذين اقترعوا فعلياً من دون احتساب الأوراق البيضاء أو الملغاة.

ولفتت "الاخبار" الى ان حقيقة الأمر أن هذه الطريقة في احتساب الغالبية المطلقة في حال الانتخاب تعود في النظام اللبناني إلى النظام الداخلي الفعلي الأول لمجلس النواب الذي أقر سنة 1930، والذي نص في مادته الخامسة على التالي: "تعتبر الأوراق الانتخابية الخالية من الأسماء والممضاة من واضعيها أو الحاوية إشارة معينة ملغاة. إن الأعضاء الممتنعين عن الاشتراك في التصويت لا يدخلون في حساب الأكثرية وكذلك الأوراق الخالية من الأسماء والمشار إليها في الفقرة الأولى تحسب ملغاة ويكتفى بعدد الأوراق المقبولة في حساب الأكثرية". وقد كررت المادة الرابعة من النظام الداخلي الذي أقر سنة 1953 هذا المبدأ فنصت على التالي: "لا تدخل الأوراق البيضاء أو الملغاة في حساب الأكثرية".

وبالفعل، في أكثر من مناسبة قبل 1990 خلال انتخابات هيئة مكتب المجلس، تم الأخذ فقط من أجل احتساب الغالبية عدد المقترعين الفعليين حتى لو كان أقل من مجموع أعضاء مجلس النواب وأيضاً مع عدم احتساب الأوراق البيضاء. وهذا ما حدث مثلاً في جلسة انتخاب نائب الرئيس بتاريخ 22 تشرين الأول سنة 1946 وفقاً للمحضر الرسمي التالي:

"عدد المقترعين: 50، عدد الأوراق: 50 منها خمس أوراق بيضاء

رئيس السن - عدد المقترعين 50، عدد الأوراق 50 منها خمس ورقات بيضاء فتكون الأكثرية 23 صوتاً ولما لم يفز أحد من المنتخبين بالأكثرية فإننا نعود لانتخاب نائب الرئيس مرة ثانية".

فمن أصل مجلس يتألف من 55 نائباً، شارك فقط 50 منهم في الجلسة اقترعوا جميعاً، لكن مع وجود خمس أوراق بيضاء، لذلك أتت الغالبية المطلقة تحتسب على أساس 45 صوتاً، ما يعني أنها 23 صوتاً كما هو مذكور صراحة في المحضر الرسمي للجلسة.

واوضحت بانه جرّاء ما تقدم يصبح جلياً أن النائب ​الياس بو صعب​ بحصوله على 64 صوتاً من أصل 113 اقتراعاً صحيحاً، مع استبعاد الأوراق البيضاء والملغاة، يكون قد انتخب انتخاباً صحيحاً نائباً لرئيس مجلس النواب من الدورة الأولى كونه حصل على الغالبية المطلقة من المقترعين أي 57 صوتاً من أصل 113.

وذكرت بان الجدال الذي دار بين النواب يعكس عدم معرفتهم بالمصادر التاريخية للأحكام الدستورية اللبنانية وتاريخ الممارسة البرلمانية في لبنان، إذ إن مواقفهم يتم التعبير عنها بلحظتها كرد فعل على حدث ما أو رأي معين، وهي غالباً ما تعكس مصالحهم السياسية المتقلبة رغم تلطيها وراء حجج دستورية ضحلة.

قراءات متنوعة

تنوعت القراءات والتحليلات لجلسة الاستحقاق النيابي امس وما دار خلالها من وقائع عكست طبيعة الكتل النيابية واحجامها والتوازنات، فقال فريق من السياسيين لـ "الجمهورية" انّ انتخابات رئيس المجلس ونائبه واميني السر والمستشارين "كانت يوماً ملحمياً بثلاثية نظيفة ثَبّتت الاكثرية النيابية، او أظهَرت من يملك ناصية هذه الاكثرية في المجلس النيابي الجديد، وكان يمكن لهذه الثلاثية ان تكون رباعية لو لم يفز امين السر الثاني والمستشارين الثلاثة بالتزكية".

واضاف هذا الفريق القريب من هذه "الثلاثية" أنّ "بقية الكتل النيابية وبينها كتلة التغييريين خسرت اولاً في رهانها على أن لا يفوز رئيس المجلس نبيه بري من الدورة الاولى، وخسرت ثانياً في معركة مرشحها غسان سكاف لمنصب نائب رئيس المجلس لأنّ الاكثرية التي أوصلت بري الى رئاسة المجلس جَيّرها بري لمرشح "التيار الوطني الحر" الياس بو صعب الذي فاز بمنصب نائب الرئيس. امّا الخسارة الثالثة فكانت بتكرار المشهد بفوز النائب ألان عون بمنصب الامين السر الاول بالاكثرية المطلقة، فيما كانت الخسارة الرابعة عندما اضطرّ التغييريون الى سحب مرشحهم فراس حمدان لمصلحة امين السر الثاني هادي ابو الحسن الذي فاز بالتزكية، ثم امتنعوا عن ترشيح ايّ من المستشارين الثلاثة الذين فازوا بالتزكية ايضاً وصودِف انهم من لون واحد.

وعَلّق هذا الفريق على ما حصل لكتلة التغيريين قائلاً: "يبدو انّ هذه الكتلة ذهبت الى صَيفِيّتها باكراً". وتوقّف عند ما كتبوه من شعارات على الأوراق التي اقترعوا بها قائلين: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فشعار الشارع للشارع لكن في المجلس "في حَكي قَرايا وحَكي سرايا، وحكي القرايا غير حكي السرايا".

واضاف اصحاب هذه القراءة قائلين: "انّ النتائج اظهرت انّ اول تَشظّ في هؤلاء التغييريين اصاب النائب ملحم خلف حيث انهم لم يرشّحوه لنيابة رئاسة المجلس ولم يعتبروه ممثلاً لهم أصلاً، ولذلك لم يُسمع صوته خلال الجلسة. في وقت شعر بعض هؤلاء انهم يقفون على الضفة الخطأ من موضوع استحقاق رئاسة الحكومة".

وفي قراءة ثانية قال فريق من السياسيين انّ ما حصل في جلسة الامس اظهَر انّ موازين القوى خالفت كل الصراخ والهمروجة التي صاحَبت التحضير لهذا الاستحقاق، الى درجة انطبقَ عليها القول "ذهب الثلج وبَان المَرج".

واضاف هؤلاء "انّ التصويت عكس موازين القوى في وقت بَدت "​القوات اللبنانية​" منكفئة عن المشهد، فحاولت مع الآخرين القيام بانقلاب عبر التصويت لغسان سكاف ولكنهم فشلوا. لذلك فإنّ ما حصل قد لا يوفر لهؤلاء اي مكان في أي تسوية سواء حول اختيار رئيس الحكومة الجديدة أو في انتخاب رئيس الجمهورية".

ويعتبر اصحاب هذه القراءة انّ "​حزب الله​" كان الرابح الأكبر في ما حصل امس بحيث انه أوصَل حليفيه الشيعي الى رئاسة المجلس والمسيحي الى نيابة الرئيس، فخاض المعركة بهدوء بعيداً عن "البروباغندا" التي أثيرت ضده داخلياً وخارجياً تحت عنوان انه مُني بهزيمة مدوية في الانتخابات النيابية الاخيرة". ولذلك يعتقد هؤلاء انّ نتيجة يوم امس وكذك نتائج الانتخابات النيابية كانت أكثر راحة للحزب من النتيجة التي حققها في انتخابات 2018.

وفي رأي هؤلاء "انّ الاكثرية النيابية صارت اكثرية غب الطلب حين تدعو الحاجة اليها ولم يعد هناك من ضرورة لأكثريات موصوفة، بل اكثرية تتوافَر حين يقتضي الامر بتوافرها مع فارق ما يؤمّن اسلوباً أكثر مرونة للتعاطي مع الاستحقاقات المقبلة من دون ان يكون اي فريق في موقع حَرج".

لكنّ قراءة المُحايدين لِما حصل تقول ان استحقاق الامس "أظهرَ فعلياً ان لا احد من القوى السياسية يمتلك اكثرية مطلقة او موصوفة في المجلس الجديد، وانّ الاكثرية ستتشكّل تبعاً للتوافق بين الكتل النيابية المختلفة على القضايا التي سيتصدى لها المجلس النيابي في جلساته العامة، ما يعني ان هذه الاكثرية ستكون "على القطعة". ورأى هؤلاء ان "الاكثرية التي توافَرت في جلسة الامس لانتخاب رئيس المجلس ونائبه ولأحد اميني السر كانت اكثرية مركّبة تكوّنت بناء على توافق الافرقاء السياسيين وكتلهم النيابية حول هذا الامر. وهذا المشهد سيتكرر في الاستحقاقات المقبلة".