يغيب "بونا" يوسف قزي الراهب اللبناني الماروني الذي حرث بقلمه الماضي، مضاء السيف، والحاد كسكة المحراث، كرم المعرفة، وعبد طريق الإيمان العميق بعظمة الله الذي يتسامى بفيض محبته وحنان ابوته الجامعة، فوق الاديان والطوائف الساعية إلى احتكاره. واضاء بغزير علمه، وعميق إيمانه على أصالة الحياة الرهبانية الطالعة من رحم الصلاة والارض، في لقاء نوعي، ومتفرد بين سمو اللاهوت وضعة الناسوت. لقاء أسس لولادة مجتمع لبناني متنوع في وحدته. فكان الراهب معلما وعاملا، مقتفيا درب المسيح الذي بذل نفسه قربانا شهيا فداء عن الآخرين.

مثقف كبير، رؤيوي ببصيرة نفاذة. فلا حدود ولا سدود تقف في وجه ما يكون من قناعات غالبا ما كان يسكبها بأسلوبه البليغ، المباشر، الذي يغلب عليه السهل الممتنع، ويضمنها عشرات الكتب التي الف او حقق، أو قدم لها مضيئا على ما غمض من موضوعات.

جريئا حتى الوجع، يقول كلمته ويمشي، لا يعبأ بالحاقدين والمحرضين. وكان كلما بلغه عن احد هؤلاء مذمة او وشاية، كان يضحك كثيرا من دون أن يعلق، وكأنه كان يستحضر اغنية فيروز: "مليح لحكيو فيك مليح

ومليح لحكيو تجريح

انت كبير ، بتبقى كبير

ويا جبل ما يهزك ريح".

علم وعلم، وتتلمذ على يده كثيرون. وكم سمعت رهبانا فاخروا: "نحن تلاميذ البونا يوسف" لقد احبوه، وهو كان يبادلهم الحب: "هؤلاء ابنائي الذين بهم سررت".

ربطتني "بالبونا" يوسف صداقة عائلية. فهو شارك في مراسم زواجي في كنيسة "سيدة الانشيف"، ببلدة الكفور -كسروان- الفتوح إلى جانب الراهب المناضل، الباني، مرتينوس سابا -أمد الله في عمره- وكاهن الرعية فترتذاك الاب طوني بشعلاني. كان يكن احتراما كبيرا لزوجتي فيفيان جورج مسكاوي وعائلتها، وكان القاسم المشترك الذي عزز الصداقة الاباتي بطرس قزي -طيب الله ثراه- الذي لقب "بالقديس" وكان مرشدا روحيا لفيفيان . وكان "ملفانا" بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. بل "فيلسوف"، يغدق على العلم قبسات إيمانية، فكان مرجعا لاهوتيا، يفزع اليه الراغبون في التبحر بالروحانيات ودورها في تسيير هذا الكون وتوجيه حياة الانسان. وكان كمال جنبلاط، خليل الجر، موريس الجميل وسواهم من المتنورين المتفوقين، يترددون عليه بانتظام، ويتجادلون معا في شؤون الكون الكبرى واغراضه. كان تأثير الاباتي "القديس" واضحا على نسيبه "البونا" يوسف الذي تأثر بسيرته ومسيرته. ولم تتوار عن ذاكرته ايامه الأخيرة التي انشب المرض مخالبه بقوة وشراسة في جسد الاباتي الواهن. خصوصا صورته وهو يبكي ويصرخ بصوت يعتصره الألم، مشركا عذاباته مع آلاب السماوي: "مع آلامك يا يسوع".

اليوم مضى "البونا" يوسف مسرعا الخطى للقاء معلمه الحبيب وخدين روحه.

ولا تغيب عن ذاكرتي أمسية صيفية جمعتنا زوجتي وانا في بيت صيفي بميروبا تابع لوقف دير سيدة نسبيه-غوسطا العائد للرهبانية اللبنانية المارونية، مع "البونا" يوسف، في حضور الاباتي الياس خليفه، والمدبر الصديق جوزف قمر.

في تلك الليلة اكتشفت الاباتي خليفه، وعمق مداركه الفلسفية واللاهوتية، وسعة احاطته بالمجامع المسكونية التي شارك في صوغ وثائق بعضها.

في تلك الأمسية كان الحديث الذي شارك فيه "البونا" يوسف، له بعد آخر، يحلق معه المستمع بعيدا، ويمضي به إلى ما وراء وراء شيئيات الحياة. كان كلاهما بئر معرفة لا ينضب، وعلامة تواضع تحاكي ما كان عليه يسوع المسيح، واب الرهبان مار انطونيوس الكبير.

احزنني غياب "البونا" يوسف، وكان فردا من العائلة، وانا خارج لبنان. بكيته عندما تلقيت نعيه. لكني كفكفت دمعي ليقيني انه تحرر من آلام الجسد، وتفلت من أثقال هذه الأرض الفانية، ومضى متخليا عن اسمال المادة، إلى الآب السماوي، الذي سيحله في ملكوته، مجزلا له الثواب لأنه أثمر الوزنات، وحرث كرمه، واغنى تراث رهبانيته باضافات نوعية جددت حضورها اللاهوتي والفكري والثقافي، الذي تناهى إليها من ماهدين بناة.

الا فارقد بسلام يا ابتي الحبيب.

لك دمعي، ودعائي، بالا يحرم رهبانيتك من قامات كتلك التي كنتها في حياتك.

فارقد بسلام يا احب الراحلين. لسنا نصلي لاجلك، فأنت من تفعل ذلك لاجلنا.