جاءَ حُزَيْرانُ حامِلًا على هامَتِهِ الذَّهَبِيَّةِ مفاتيحَ الصَّيْفِ، مُبشِّرًا بفَيْضِ البَيادِرِ حَبًّا وحُبًّا، وبحَنين الخَوابِي إلى ذاك السَّائِلِ الَّذي إنْ قَلَّ فَرَّحَ قَلْبَ الِإنْسانِ وإنْ كَثُرَ ذَهَبَ بعَقْلِهِ.

جاءَ حُزَيْرانُ، وكُلَّما جاءَ، اشْتَعَلَتْ في ذِهْني صُوَرُ النِّصْفِ الَّذي مَضَى مِنْ أشْهُرٍ وَلَّتْ، وسَكَنْتُ مُتَأَمِّلًا بالنِّصْفِ الآتي مِنْ أَيَّام مُقْبِلَةٍ وبِما قَدْ تَحْمِلُه مِنْ خَيْرٍ مَطْلوبٍ أَو تُخَبِّئُه مِنْ حَظٍّ مَقْلوب، تَمَامًا كمَا العُمْرُ تَخْتَلِفُ أحْلامُ نِصْفِهِ الأَوَّلِ عن هُمُوم نِصْفِهِ الثَّاني. فهُناك يَزْرَعُ الِإنْسانُ في عَقْلِهِ وقَلْبِهِ وإحْساسِهِ مَا يُؤْتَى بالعِلْم المَعارِفِ، ومَا يَبْرُقُ في بالِهِ مِنْ آمَالٍ ومَا يَرْتَسِمُ في ذِهْنِهِ مِنْ أَهْداف. وهُنا يَقِفُ ناظِرًا كَرَمَ الحَصادِ نادِمًا على مَا فاتَهُ واثِقًا بِمَا حَقَّقَه، فيَقِفُ ناضِجًا وكأَنَّ زَمَنَ الخَياراتِ قَدْ وَلَّى، لكِنَّهُ يَجِدُ منَ المُبْكِرِ الذَّهابَ مُدْرِكًا أَنَّ الزَّمَنَ يَتَجَدَّدُ، وأَنَّ الحُلْمَ إذا مَا تَحَقَّق يَخْلُقُ تَرْدادًا لأَحْلام أُخْرى أَكْثَرَ واقِعِيَّةً وأَقْرَبَ مَنَالاً، وفيها مِنَ التَّعَقُّل والِاتِّزانِ مَا يَجْعَلُ النَّاسَ يُزَيِّنون خَياراتِهِم بحِكْمَةٍ وتَعَقُّل.

أيّها الناس ستَخْتارون بَيْنَ أَمْسٍ لَمْ يَكُنْ لَكُم فيه كَثيرٌ مِنَ التَّأْثير، وغَدٍ تَعْتَقِدونَ بأَنَّكُم تَبْنونَه بالعَزْم والِإيمان، رافِضينَ أَنْ يَكونَ تاريخُكُم صَنيعَةَ الآخرين الَّذين لِشِدَّةِ صِغَرِهِم، يُحاوِلون أَنْ يُعيقوا طريقَ الكِبار.

ستَخْتارون بَيْنَ الفَراغِ الَّذي يَزْدادُ فَراغًا كُلَّما غَرِقْتُم به ظانِّين أَنَّكُم تَغْرِفون مِنْه، فلا تَجِدون في خَوابيكُم سِوَى الضَّياعِ والقُنوط، وبَيْنَ الأمَلِ المَشُوبِ بالأَحْزانِ والانْدِفاعِ المَجْروحِ بأَشْواكِ الطُّفَيْليِّين، والتَّصْويبِ الهادِئِ نَحْوَ الهَدَفِ، مَهْمَا حاولَتْ سَحالي التُّرابِ أَنْ تَحْفُرَ بُطونَ الجِبال.

ستَخْتارون بَيْنَ حقيقَةٍ خَنَقَتْها المَصالِحُ الرَّخيصَةُ والأَنانِيَّةُ القاتِلَةُ والحَسَدُ النَّابِعُ مِنَ الضُّعْفِ المَجْبولِ بالأَحْقاد، كمَا حاوَلَتْ تَكْرارًا أَنْ تُشَوِّهَها رَغَباتُ النُّفوسِ المُشْبَعَةِ بالأَوْحالِ، فَجَعَلَتْها تُقارِبُ الضَّلالَ قَناعَةً والِاسْتِغْلالَ سُلوكاً. وبَيْنَ حقيقَةٍ تَسْطُعُ كمَا الوُجودُ وتَجْذِبُ كمَا العِشْقُ لأنَّها نابِعَةٌ منَ الكِيانِ المُسْتَنيرِ بروحِ الله.

ستَخْتارون بَيْنَ أَنْ تكونوا مَوْصوفينَ بالإضافاتِ الَّتي تُزادُ على جَوْهَرِكُمُ المَوْسُوم بصورةِ الله الَّتي مِنْها كَرَامَتُكُم وعِزَّتُكم ومَصْدَرُ حُقوقِكُم وقيمَةُ الْتِزامِكُم بالواجِبِ والخَيْرِ، مُتَوَهِّمين أَنَّ هذه الإضافات، كالأَلْقابِ والَمناصِبِ والعَلاقاتِ وحتَّى المَعارِفِ والعِلْم والمَداركِ المُكْتَسَبَة، تَجْعَلُ مِنْكُم مَا يَجِبُ أَنْ تكونوا، وبَيْنَ كِيانِكُم الحَقيقيِّ الَّذي هو أَنْتُم جَوْهَرًا وعَرَضًا، عارِفينَ أَنَّ قيمَتَكُم في حالِكُم ولَيْسَتْ في مالِكُم.

ستَخْتارون بَيْنَ أَنْ تأْكُلوا مِنَ الشَّجَرَةِ المُحَرَّمَةِ وكأَنَّكُم تَمْلِكون الأَرْضَ ومَا عَلَيْها، جاعِلينَ مِنْ أَنْفُسِكُم مَرْجَعًا نِهائِيًّا لأَنْفُسِكُم، وكأَنَّ الِإنْسانَ الَّذي فيكُم هو صَنيعُ نَفْسِهِ لا يَعودُ إلى صانِعِهِ في بحْثِه عَنْ إرادَتِه وغايَةِ خَلْقِه، وبَيْنَ أَنْ تَتَصَرَّفوا مُدْرِكينَ أَنَّكُم وُكَلاءُ الله على هذه الأَرْض، وأَوَّلُ واجِباتِ الوَكيلِ أَنْ يَصْنَعَ إرادَةَ مُوَكِّلِهِ الَّذي يُريدُ لهُ ولَكُمُ الخَيْرَ والفَرَحَ والسَّعادَة.

لَعَلَّ النِّصْفَ الثَّانِيَ، على مَا فيه مِنْ تَعَبِ الحَصادِ ومَا يُغَبِّرُ أيَّامَهُ بكَثيرِ الرَّمادِ ويُضَيِّقُ خِناقَهُ صِغارُ النُّفوسِ مِنَ العِباد، يَبْقَى زَمَنَ الخَياراتِ الأَبْقَى والعَطاءِ الأَنْقَى.