من أسمى ما زرعه السيد المسيح فينا هو روح الخدمة، ولذلك أورد آيات كثيرة في هذا السياق، حاثًا المؤمنين على تذوّق معنى الخدمة كمعراج لنا إلى ملكوت الله. ورد في إنجيل متى هذه الآية الشهيرة: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا"(متى 20: 26). أعطى المسيح نفسه مثالًا في الإتّضاع، فهو لم يطلب مركزًا عالميًا فيخدمه كثيرون، بل أتى ليكون خادمًا للبشرية، ويموت عنها ليفديها.

الخدمة متعدّدة الجوانب، منها المجّانية، ومنها مقابل بدل. نحن نشهد في هذا البلد، على متطوّعين في مؤسسات اجتماعيّة وانسانيّة ودينيّة، يعملون دون مقابل، على مثال البعض من المتطوّعين في الصليب الأحمر والدفاع المدني وغيرهم. فالخدمة عند أولئك لها دلالات على أن هذا البلد لم يخلُ من أصحاب الهمم، الذين رفعوا من شأن الخدمة، وألبسوها وشاحًا مقدّسًا.

مناسبة الإستشهاد بهاتين المؤسستين، كاندلاع حريق في تلال الشويفات، منذ فترة، فاستنجدنا بالدفاع المدني وبعناصر من الصليب الأحمر، حيث يحضرون دائما عند أي طارئ. لا استطيع أن أصف جرأة عناصرهم في مواجهة النيران، التي كانت سريعة الإشتعال والإنتقال بسبب سرعة الهواء. رافقناهم بالصلوات والدعاء، واستطاعوا بعد جهدٍ، وبمؤازرة أصحاب الهمم في البلدة وعناصر شرطة البلدية، من حصر النيران بعجيبة سماوية.

سمعت عدد من الموجودين، يتحدث عن الإجحاف الحاصل بحق المتطوّعين، الذين افتقروا في تلك الليلة لبعض المعدّات التي تقيهم شرّ النيران. وهنا أسمح لنفسي، أن ارفع الصوت عاليًا في وجه ما تبقّى من ضمير عند المسؤولين، لماذا لا يصار إلى دعم عناصر الدفاع المدني والمتطوّعين بينهم؟ ما الهدف من هذا الإهمال؟ وما البديل عنهم؟ حقًا أقول وبالفم الملآن، لولا العناية الإلهيّة وهمّة الشباب، لكانت النيران تخطّت الأشجار، لتطال الحجر والبشر على السواء. في هذا السياق لم ننسَ بعد شهداء المرفأ، وفي طليعتهم عناصر فوج الإطفاء.

تواضع أولئك الشباب ومحبتهم للخدمة، دليلٌ واضحٌ على أن الله يعمل في الناس، ولكن المسؤولين والقيّمين عندنا، مرتهنون للمحسوبيات والتنفيعات، وللأسف البعض يستغل قضايا هؤلاء الشباب، غبّ الطلب، ويسعى للمتاجرة في تضحياتهم.

ربما قد تأخرت عن شكر كل عنصر ومتطوّع في الدفاع المدني والصليب الأحمر، وأبناء البلدة وبلديتها، وأصحاب الصهاريج، الذين لبّوا نداءات الإستغاثة، وسارعوا لتزويد مركبات الإطفاء بالمياه، لكن أن تأتي متأخرًا خير من ألاّ تأتي أبدًا. فألف شكر وتحيّة على كل الجهد الذي بذلتموه لإخماد الحريق، سواء في المكان الذي أشرت إليه، ام في أي موقع آخر في هذا الوطن الغالي.

في المناسبة أدعو وأشجّع كافة المواطنين لكي يساهموا في دعم المتطوعين، في هاتين المؤسستين، رغم الظرف الإقتصادي الصعب الذي نعيشه. ففلس الأرملة مبارك أكثر بكثير من أموال الميسورين، "مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ"(أعمال الرسل 20: 35).

يلفتني ما أورده يسوع المسيح في إنجيل متى: "أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ"(متى 20: 28)، هذه هي الخدمة السامية التي يجسّدها أولئك المتطوّعون، الذين، ورغم إنتماءاتهم الحزبية المتنّوعة، قرّروا من خلال إنخراطهم في مؤسسات انسانية، العمل على خدمة الناس دون تمييز أو استثناء، هذا ما يضفي على خدمتهم وتفانيهم، هالة من القداسة والبهاء، والتجرّد من الأنانية، وحبّ الرئاسة والكلام البطّال، عكس كثر من حكّام أهل الأرض، الذين وعدونا بالخير، وإذ نشهد الويل.

لم يفكّر هؤلاء كأهل الأرض السّاعين لمجد أرضي، إنما بتواضعهم ومحبّتهم للخدمة، حازوا على محبة الناس لهم واحترامهم لرسالتهم. بوركت سواعدكم وبورك تطوّعكم وبوركت خدمتكم، لأنكم فعلًا جئتم لتَخدِموا لا لتُخدَموا.