كانا في قُرابَةِ سِنِّ إستِشهادِهِ، حينَ إستُشهِدا، في أرضٍ بَعيدَةٍ، في أرضٍ غَريبَةٍ... لا لِسَبَبٍ إلّا لأنَّهما صاراهُ: هوَ الحَقيقَةُ المُطلَقَةُ، هو الآتي أرضَ البَشَرِ خَلاصاً، هو الحَياةُ الأبَدِيَّةُ.

مِنهُ أخَذا المُطلَقَ الذي لا مُساوَمَةَ فيهِ، فآثَرا مُعايَشَةَ دُروبَ صَلبٍ اقاما على مَحَطَّاتِها التي مِن قرىً وبيوتاً، فَرَحَ الإرتِفاعِ، بَعدَ كُلِّ ألَمٍ، صَوبَ السَماءِ. وَمِن مُطلَقِهِ اللامَحدودِ فاضَت شِباكُهُم بَشَراً يَسكُبونَ، بِدَورِهِم، على رَجسِ قُلوبٍ إمتَهَنَتِ التَوَحُّشَ، وإستَطابَتِ الحِقدَ وإستَشرَسَت للإِبادَةِ بإسمِ الدينِ والمُطالَبَةِ حَدَّ القَتلِ بالجُحودِ، سَحابَةَ الرَحمَةِ وَجَوهَرُها الغُفرانُ.

إن لَم تُعَمِّد ذاكَ القاصِدَ إلغاءَكَ بِشتَّى أنواعِ المَوتِ، بِدَمِكَ، لا يَكونُ إستِشهادُكَ في سَبيلِهِ، هو الشَهيدُ الأوَّلُ، ذَبيحَةً تًحيي العالَمَ.

ليونار ملكي وتوما صالح ذَهَبا الى أقصى هذا القَصدِ، الى جَذرِيَّةِ الصَيرورَةِ الكُليَّةِ بالمَسيح.

أهي عَلامَةُ جُرأةٍ لامُتناهِيَّةٍ؟ بَل قُل: عَلامَةُ أنَّهما مِن لُبنانَ.

أجَل! ما غيرُهما كان قادِراً على أن يُغالِبَ مَهاويَ الضُعفِ وَيَسلُكَ صُعوداُ جُلجُلَةَ الشَرقِ، جُلجُلَةَ العالَمِ، جُلجُلَةَ لبنانَ، إلَّا مَن كانَ مِن لبنانَ: هما ما جاهَرا بِنَظَريَّاتٍ في الحُرِيَّة بَل كانا حَقيقَتَها بِـ"نَعَم" لِلمَسيح. وَهُما ما إستَهابا تَخاذُلاً قد يأتي مِن ضُعفٍ يَستَجدي غَفوَةً، بَل إرتَقَيا الى ذُروَةِ ما يُمكِنُ أن يَبلُغَهُ مِلءُ إنتِماءٍ، لا فَردِيَّاً فَحَسب، بَل الذي يُقَوي عَزيِمَةَ المَحكُومينَ عَلَيهِم بالمَوتِ، رِفاقَهَم، لأنَّهُم الى المَسيحِ إنتِسابُهُم، فَتَزيدَهُم ثَباتاً في جَبلَتِهِ، في أرضِهِ، في سَمائِهِ.

"جَزَانا السَماءُ"! صَرَخا... فَصَرَخوا مَعَهُما.

"جَوابُنا المَسيحُ"! صَرَخا... فَصَرَخوا مَعَهُما.

إذذاكَ سَقَطَ الجَلَّادونَ في المَوتِ، وَهُما إرتَفَعا وَقوافِلُهُما الى الحَياةِ.

أبُطولَةُ شابَّانِ مِن لبنانَ؟ انا، ما قُلتُها بَعدُ. سَبَقَني إليها خَليفَةُ بُطرُسَ، مُوَقِّعاً عَلى كَلامِهِ بِحِبرِ الخُلودِ في القَداسَةِ! آهِ بُطرُسَ! أتَذكُرونَ؟ ذاكَ الَذي نَبَّهَهُ المُعَلِّمُ: "سَتَشُكُّونَ فِيَّ كُلُّكُم... وأنتَ سَتَنكُرُني ثَلاثًا، قَبلَ صِياحِ الديكِ"! وَكانَ المُعَلِّمُ في هَولِ أحكامِ مَهاويَ مُبتَكِري المَوتِ وَمُعتَنِقي الجُحودِ.

حتَّى المُعَلِّمُ نَفسُهَ إعتَرَتهُ حِينَها مَخافَةٌ...

وَهُما؟ لا! أبَدا. الآنَ أقولُها: هِي تِلكَ بُطولَةُ شابيَّنِ مِن لبنانَ. بُطولَةُ قَداسَةٍ مُتَدَفِّقَةٍ مِن إمتِلاءِ إتِّحادِهِما فيهِ هو. هو الَذي لَهُ صَرَخا: "لا لَنا، بَل لَكَ، لإسمِكَ، لِمَشيئَتِكَ، ها هوَذا جَسَدُنا، وَها هوَذا دَمُّنا!"

أجَل! لأّنَّهما مِن لبنانَ، بَلَغَ تَحَدِّيهِما لَهُ الى هَذا الحَدِّ. نَضَحا دماً، لا عَرَقاً، والعَالَمُ في سُباتٍ عَميقٍ، في إستِسلامٍ أصَمَّ، في مَوتٍ لا مُبالٍ... وَسَيَبقى.

ما بالُكُم نائِمينَ؟

هي تِلكَ صَرخَتُهُم، اليَومَ، ليونار وتوما، توما وليونار، اللبنانييَّن بالحَقِّ، إذ تُمَجِّدُهُم كَنيسَةُ الأرضِ، وَتُهَلِّلُ لَهُم كَنيسَةُ السَماءِ، لأهلٍ جاثِمينَ فَوقَ خَرابِ المَوتِ وأنقاضِ الجَحيمِ، وَدُيوكُ العالَمِ في صياحٍ، لا ثَلاثاً، بَل ثَلاثينَ ثَلاثينَ ثَلاثاً.

ألا إنهَضوا، كوناهُ هوَ، كونوا مُسَحاء! تَحَصَّنوا بإسمِهِ، أفيضوا ذَبيحَةً بِها تَندَحِرُ أبوابُ الفَناءِ!

ألا كونوا هذا الواقِعَ، بِوَجهِ كُلِّ أمرٍ واقِعٍ. وَفي زَمَنيَّةِ الإفناءِ كونوا دَهرِيَّة الفِداءِ. إذ ذاكَ تُعطَونَ، مِن فَوقٍ، مِنَ السَماء، أن تَكونوا حَقَّاً لُبنانييِّنَ: أبناءَ تِلكَ القِمَّةِ الأغزَرَ مِمَّا هي، والأسمى مِمَّا هي: أبناءَ لبنانَ المَهدوفِ إليه، مِن أقاصِيَ الأرضِ الى بُلوغِهِ، لا العَكسُ... لبنانَ الرَسوليَّ، مِن أقاصِيَ الأرضِ إلى أقاصِيَ السَماءِ، لا لبنانَ الرِسالَةِ فَحَسبَ.