يَبدو المَشهدُ مُتَعارِضًا، مَشهَدُ أيقُونَةِ "العَنصَرة[1]" بِمُقابِلِ ما أَورَدَهُ سِفرُ أعمالِ الرُّسُلِ عَنِ اليَومِ الخَمسين[2] بَعدَ الفِصحِ، يَومِ "العَنصرَة".

النَّصُّ الكِتابيُّ يَقول: "وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ[3]"، بينما في الأيقُونَةِ الخَاصَّةِ بِهذا الحَدَثِ، نَرَى التَّلاميذَ جالِسِين في صَفَّين، في هُدوءٍ تامٍّ وسلامٍ وثَبات، كأن لا "رِيحٌ عاصِفَة" تَهبُّ ولا شيءَ مِثلُ ذلك.

هَذا المَشهدُ الإيقُونوغرافيّ يَحوي تَعليمًا كَبيرًا.

بِدايةً، وبِشَكلٍ مُختَصَرٍ، حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ في العَنصَرَةِ على تَلامِيذِ يَسوعَ، حَيثُ كانُوا مُجتَمِعينَ في أُورَشَليمَ[4]، حَسبَ ما أَوصَاهُمُ الرَّبُّ[5]، لِيَنتَظِروا حُلولَ هَذا الرُّوحِ عَلَيهم.

الآنَ، لِكَي نُدرِكَ مَغزى التَّصويرِ في أَيقُونَةِ العَنصَرةِ، لا بُدَّ لنا مِن إعادَةِ قِراءَةِ التَّدبيرِ الإلَهِيّ الخَلاصيّ للإنسانِ مُنذُ البِدَايَة. اللهُ خلَقَنا على صُورَتِهِ كشِبهِه، لَكِنَّنا سَقَطنا وابتَعَدْنا عَنه، وتُهنا في الخَطِيئَةِ، ودَخَلنا في اضطِرابَاتٍ معَ ذَواتِنا ومَعَ الآخَرينَ ومَعَ الله. رُغمَ ذلك، لم يَتخَلَّ اللهُ عَنَّا، نَزِلَ إلَينا وتَجَسَّدَ، وصُلِبَ وقَامَ، وصَعِدَ إلى السَّماواتِ، وأَرسَلَ لنا الرُّوحَ المُعَزّي، أي الرُّوحَ القُدُسَ، لِنَتَقَدَّسَ ويَعودَ إلَينا السَّلامُ الإلَهيُّ مُنعِشُ نفوسِنا، ونَعودَ مُواطِني السَّماء.

الصُّورَةُ تَتَّضِحُ أكثرَ إذا سَلَّطنا الضَّوءَ على ثَمرَتَين مِن ثِمارِ الرُّوحِ القُدس: "الفَرحُ والسَّلام[6]". بِدُونِ هاتَين الثَّمَرتَين حُزنٌ واضطِرابٌ ثَالوثيّ: مَعَ ذَواتِنا، ومَعَ الآخَرِينَ، ومَعَ الله. إذًا حُضورُ اللهِ غِبطَةٌ وسَلامٌ وطُمأنِينَة.

كَذَلِكَ فإنَّ كَلِمَةَ "عَنصَرة" عِبرِيَّةٌ، وتَعني "اجتِماع" وَ"مَحفِل"، واستَعملَتها الكَنيسَةُ لِتُعبِّرَ عن فَرَحِ اجتِماعِنا بِالرَّبِّ، واتِّحادِنا بِه. هذا هُو الهَدفُ الأَساسيُّ لِوُجُودِنا، كَما أنَّ كَونَنا في مَحفَلِهِ هوَ قَداسَةٌ، ودُخولٌ في مَواسِمِ الرَّبِّ البَهِيَّة. هَذا تَمامًا مَا أَشارَ إليهِ الرَّبُّ مَعَ موسى حَولَ الأَعيادِ "هَذِهِ مَوَاسِمُ الرَّبِّ، الْمَحَافِلُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي تُنَادُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا[7]".

بالمُقابِلِ كُلُّنا يَعرِفُ أنَّ "الرِّيحٍ العَاصِفَة" تُحدِثُ بَلبَلةً. هَذا مَا حَصلَ في العَهدَين القَدِيمِ والجَديدِ، ولَكِن بِشَكلٍ مُختَلِفٍ في كُلِّ مَرَّة.

في العَهدِ القَديمِ، بَلبَلَ اللهُ كِبرياءَ الّذينَ أرادُوا أن يَبنُوا لأنفُسِهِم بُرجًا عَالِيًا رَأسُهُ السَّماءُ، بُرجًا مَليئًا بِالتَّشامُخِ والأنَانِيةِ وعِبادَةِ الذَّاتِ والاستِغناءِ عَنِ الله. فَبعدَ أن كَانُوا لِسانًا وَاحِدًا بِالخَطِيئَةِ، نَزَلَ اللهُ إلَيهِم، وبَلبَلَهُم وبَاتُوا "لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ[8]".

البَلبَلَةُ إذًا هِيَ عَدَمُ فَهمِ الإنسانِ لِلآخَر، وهَذا لا يَجعَلُ النَّاسَ غُرَباءَ بعضَهُم عن بَعضٍ فَحَسب، بَل غُرَباءَ عن أَنفُسِهِم أَيضًا، وعَنِ الله. عِندَهَا يَدخُلُونَ في اضطِرابَاتٍ ونِزاعاتٍ، فلا استِقرارَ ولا سَلام، بل يَعلُو الضَّجيجُ الّذي يُغلِق القُلوبَ، فيُنشِئُ الغَضبَ وتَختَفي المَحبَّةُ الّتي هِيَ إحدَى ثِمارِ الرُّوحِ القُدُس[9]".

أمَّا في العَهدِ الجَديدِ، فَكانَ اليهودُ المُجتَمِعُونَ في أُورَشليمَ غُربَاءَ بَعضُهُم عن بَعضٍ، أتَوا مِن أَماكِنَ مُختَلِفَةٍ لِيُعَيِّدُوا لِذِكرى استِلامِ مُوسى الشَّريعَةَ[10] مِنَ اللهِ، وذَلِكَ بَعدَ خَمسينَ يَومًا مِن خُروجِهِم مِن مِصر. كانَ كُلٌّ مِنهُم يَتكلَّمُ لُغَتَهُ الخَاصَّةَ، وكانُوا يُعَيّرونَ بعضُهم بَعضًا، إذ إنَّ يهودَ أُورَشليمَ كانوا يَعتَبِرُونَ يَهودَ المَناطِقَ الأُخرى، بِخاصَّةٍ الشَّتَات، أَقَلَّ مِنهُم شأنًا. كانُوا يَبدُونُ في العِيدِ جَماعَةً واحِدَةً، لكنَّ وَاقِعَ الأمرِ عَكسَ ذَلك. ولَمَّا حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ على التَّلامِيذِ، بَاتَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اليَهودِ فاهِمًا لكُلِّ ما يقولُه التَّلامِيذِ وكأنَّهُم يُكَلِّمُونَهُ بِلُغَتِهِ الخَاصَّة، ذَلِكَ لأنَّ اللُّغَةَ كانت لُغَةَ الرُّوحِ الّتي تَجمَعُ المُتَفَرِّقاتِ إلى واحِد. وهَذا ما أَدَّى إلى انضِمامِ "نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْس[11]" إلى الكنيسَةِ في ذلكَ اليوم. قديمًا، خاطَبَ مُوسى الشَّعبَ المُستَعِدَّ لِدُخُولِ أُورَشليمَ الأَرضِيَّةِ، أمَّا الآنَ، فَبطرُسُ خاطَبَ الشَّعبَ ودَعاهُم لِدُخُولِ أُورَشلِيمَ السَّماوِيَّة.

هَكذا بَلبَلَ الرُّوحُ القُدُسُ الخَطيئَةَ، وأَلغَى المَسافَاتِ بَينَ البَشَر، وجَعلَ النَّاسَ أُمَّةً سَماوِيَّةً واحِدَة.

فَاللهُ صارَ إنسَانًا لِنَكونَ واحِدًا بِهِ، طَبعًا دُونَ أن يَذُوبَ أَحدُنا، لا بِاللهِ ولا بِالآخَر، بَل يَبقَى كُلُّ شَخصٍ قائِمًا ومَوجُودًا بِحُريَّةِ أبنَاءِ اللهِ، لأن "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ[12]". فالرُّوحُ القُدُسُ يَجمَعُنا بِشَرِكةِ المَحبَّةِ الإلَهِيَّةِ على صُورَةِ الثَّالُوثِ القُدُّوسِ الواحِدِ في الجَوهَر. إنَّها الصُّورَةُ المُثلى للتَّنوُّعِ في الوَحدَة.

لِنتأَمَّلْ أَيقُونَةَ العَنصَرَةِ مَرَّةً أُخرى. هِيَ تُظهِرُ اثنَي عَشَرَ رَجُلًا، بَينَما النَّصُّ الكِتابيُّ يَتكلَّمُ على حوالى ١٢٠ شَخصًا[13]. هَذا تَفسيرُهُ أنَّ الأيقُونَةَ هُنا تُمَثِّلُ الكَنيسَةَ المُؤَسَّسَةَ على الصَّخرَةِ الّتي هِيَ المَسيحُ، وتَفتَحُ ذِراعَيها لِتَستَقبِلَ الكُلَّ وتُبَشِّرَ الكُلَّ، كَما أَوصَى الرَّبُّ الإلَه[14].

هَذا تَمامًا مَا يُمَثِّلُه الشَّخصُ في أَسفَلِ أَيقُونَةِ العَنصَرَةِ، أي "العَالَم" واسمُهُ KOSMOS. هُوَ ظَهَرَ ابتِداءً مِنَ القَرنِ العَاشِرِ تَقريبًا. نُشاهِدُهُ أحيَانًا خَلفَ قُضبانٍ مَأسُورًا، والرُّوحُ القُدُسُ يُحَرِّرُه.

هَذا المَلِكُ الأَرضِيّ يَحمِلُ قِطعَةَ قِماشٍ طَويلَةً عَلَيها اثنا عشرَ لَفيفَةً، إشارَةً إلى بِشارَةِ الرُّسلِ الاثنَي عَشر. وأَحيانًا يُشيرُ إلى النَّبيّ يُوئيلَ الّذي تَنَبَّأ: "وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ[15]".

وفي أيقُوناتٍ أُخرَى نُشاهِدُ أَشخاصًا أو مَدينَةَ بَابِلَ، كَأنَّنا نَقرأُ بِذَلِكَ ما كَتَبَهُ بُولُسُ الرَّسولُ: "الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخرَى لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ"[16].

إذًا، نُزُولُ الرُّوحِ القُدُسِ عَلى التَّلامِيذِ حَدَثٌ مَسكونِيٌّ لأنَّ الرَّبَّ "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ[17]".

إلى الرَّبِّ نَطلًب.

[1]. كلمة "عنصرة" عبرية وتعني اجتماعًا أو مَحفِلًا.

[2]. كلمة Pentecost تأتي من اللغة اليونانية وتعني "خمسون".

[3]. أعمال ١:٢-٤

[4]. أعمال ١٣:١

[5]. "سَتَنالونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" أعمال ٨:١

[6]. غلاطية ٢٢:٥

[7]. لاويين ٧:٢٣

[8]. تكوين ٧:١١

[9]. غلاطية ٢٢:٥

[10]. كان القرن الثاني قبل الميلاد عيد الأسابيع.

[11]. أعمال ٤١:٢

[12]. ٢ كورنثوس ١٧:٣

[13]. أعمال ١٥:١

[14]. "سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أعمال ٨:١)

[15]. القِراءةُ الثَّانِيةُ من غُروبِ عِيدِ العَنصَرة، وأيضًا كما قالَ بُطرسُ في عِظَتِه. (يوئيل ٢٨:٢ – أعمال ١٧:٢)

[16]. أفسس ٥:٣-٦

[17]. ١تيماثوس ٤:٢