مع اكتمال "المطبخ التشريعي" لمجلس النواب، عقب الانتهاء من عملية انتخاب اللجان النيابية "الماراثونية"، وغير المسبوقة ربما في تاريخ البرلمان، بعدما ارتأى نواب "التغيير" فرض المعركة الديمقراطية، ولو وُصِفت بـ"الخاسرة"، تتّجه الأنظار إلى "الاستحقاق التالي" المفترض، وهو استشارات تسمية رئيس الحكومة التي ينبغي أن يدعو إليها رئيس الجمهورية.

وإذا كان هناك من عزا "التأخير" في هذه الدعوة، بل في بدء الحديث "الجدّي" بالملف الحكومي، إلى انتظار رئيس الجمهورية إنجاز انتخاب اللجان أولاً، فإنّ كلّ التقديرات تشير إلى "أسباب ودوافع سياسية" تدفع نحو "تأجيل إضافي" لهذه الاستشارات، ريثما يتبلور "توافق ما" على خطها، خصوصًا أنّ كلّ الأجواء توحي بـ"ضبابية استثنائية" في المشهد.

ويكفي للدلالة على ذلك أنّ أطراف "سيناريو الـ65" الذي طبع أولى جلسات مجلس النواب الانتخابي، وكشف النقاب عن "أكثرية متحركة" قد تكون لها "كلمتها" في كل الاستحقاقات، غير متّفقين على ما يبدو على شخصية محدّدة، في ظلّ ميل "التيار الوطني الحر" نحو عدم تسمية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بعد السجالات "الكهربائية" معه.

ولا يبدو المشهد مغايرًا عند "خصوم العهد"، حيث لا يزال الاتفاق "متعذّرًا" على ما يبدو بين الكتلتين "السيادية" (كما تصف نفسها)، و"التغييرية"، في ضوء إصرار العديد من نواب "التغيير" على عدم تكرار "خطيئة" تسمية مرشح "الحزب التقدمي الاشتراكي" في معركة نيابة رئاسة المجلس، ولو اعتُبِر الأخير "مستقلاً"، ومن خارج "المنظومة".

انطلاقًا ممّا سبق، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن مآلات الاستشارات النيابية المرتقبة، وما إذا كان نجيب ميقاتي هو فعلاً المرشح "الأوفر حظًا" على خطّها، كما يُحكى في الصالونات السياسية، في ضوء حماسة "الثنائي الشيعي" تحديدًا للتجديد له، وقبل هذا وذاك، متى سيدعو عون عمليًا إلى هذه الاستشارات، ليُبنى على الشيء مقتضاه؟!.

في المبدأ، يتحدّث العارفون عن "تريّث" يبديه عون في الدعوة إلى الاستشارات، التزامًا بما دأب على فعله طيلة السنوات السابقة من عهده، حيث يعتبر أنّ الدستور لا يلزمه بـ"مهلة محدّدة" للقيام بهذه الخطوة، رغم أنّ الكثير من الخبراء القانونيون لا يوافقون على مثل هذا "الاجتهاد"، وهو لذلك "يفضّل" أن يترك المجال للاتصالات السياسية السابقة للاستشارات، لعلّها تنجح في التوصل إلى "الحد الأدنى" الاتفاق على "سلة متكاملة" ينطلق التكليف منها.

وهناك من يعتبر أنّ "تريّث" اليوم تحديدًا قد يكون مفهومًا، فالحكومة المُنتظَرة، إن قُدّر لها أن تتشكّل في الوقت المناسب، ستكون فعليًا "آخر" حكومات "العهد"، بل إنّها ستكون الحكومة التي "ستَرِث" صلاحيات رئيس الجمهورية، في حال انتهاء الولاية الرئاسية في تشرين الأول المقبل، من دون انتخاب رئيس جديد ليخلفه، وهو ما ترجّحه معظم الأوساط السياسية، ولو أنّ هذا النقاش يبقى متروكًا لأوانه، والظروف والمتغيّرات التي قد تؤثر عليه بشكل مباشر.

وينطلق رئيس الجمهورية في "تريثه" من الانقسام "العمودي" في مقاربات النواب والكتل لشكل وطبيعة الحكومة المقبلة، فهناك من يدعو إلى "استنساخ" حكومة نجيب ميقاتي، باعتبار أنّ المطلوب من أيّ حكومة سيكون استكمال ما بدأته الأخيرة، خلال مرحلة "انتقالية" لن تدوم أكثر من أشهر قليلة، ولا سيما أنّها ستكون حكومة "انتقالية"، على أن ينطلق "العهد الجديد" بعد انتهاء ولاية الرئيس عون بحكومة مغايرة شكلاً ومضمونًا.

في المقابل، ينظر "التيار الوطني الحر" مثلاً إلى هذه الحكومة على أنّها يجب أن تشكَّل بـ"عناية ودراية"، لأنّها ستكون "الصورة الأخيرة" التي ستُترَك عن "العهد"، والمطلوب منها أن تكرّس "الإنقاذ" بدل "الانهيار" الذي تكرّس في الصورة النمطية عن "العهد" بكامله، ويذهب البعض أبعد من ذلك بالقول إنّ "التيار"، إن لم يجد هذه المواصفات في أيّ حكومة، فهو سيفضّل عدم تشكيلها، ويملك بين يديه "سلاح" توقيع رئيس الجمهورية الملزم.

وبين هذا وذاك، ثمّة من "يراهن" أيضًا على مواقف نواب الأحزاب التقليدية المعارضة، كـ"القوات" و"الكتائب"، ومعها نواب "التغيير"، رغم غياب كلّ مؤشرات "الانسجام" حتى الآن بين المعسكرين، في ظلّ إصرار "التغييريين" على ترك مسافة بينهم وبين "القوات"، التي يعتبرونها جزءًا من "المنظومة"، ولا سيما أنّها كانت "شريكة" في التسويات وفي الحكومات المتعاقبة، التي لم تغادرها سوى بعد اندلاع "انتفاضة 17 تشرين".

مع ذلك، يبقى احتمال ذهاب الفريقين إلى الاستشارات باسم واحد موحّد قائمًا، حيث لا يستبعد البعض أن تغيّر "القوات" مثلاً "تكتيكها" هذه المرّة، فتنتظر معرفة الاسم الذي سترشحه كتلة نواب "التغيير"، لتتبنّاه بعد ذلك، معلّلة الأمر بأنّ "المواصفات" التي حدّدتها للمنصب تنطبق عليه، علمًا أنّ مثل هذه المعركة ستكون "خاسرة" على الأرجح للطرفين، لأنّ أيّ مرشح من هذا النوع، ولو كُلَّف، لن يستطيع التشكيل، طالما أنه سيحتاج إلى توقيع الرئيس على تشكيلته.

لعلّ هذا بالتحديد ما يخيف الكثير من العارفين من مثل هذا "السيناريو"، الذي قد يستكمل مسلسل "المزايدات والشعبوية" التي بدأت قبل الانتخابات ولم تنته مع إسدال الستار عليها، ولا سيما أنّ كلّ المؤشّرات توحي بـ"تضييع وقت"، قد يكون في "مصلحة" البعض، لكنّه بالتأكيد لن يكون في "صالح" البلد، الذي يحتاج إلى تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، واليوم قبل الغد، فيما هناك من يغلّب "النكايات والنكد"، لتبقى معها الاستشارات "بحكم المؤجلة"!.