على خطى هادئة وبطيئة، يسير ​لبنان​ في استحقاقاته "الداهمة" رغم طابع "العجلة" الذي يهيمن عليها، فرئيس الجمهورية ​ميشال عون​ لا يزال يتريّث في الدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس حكومة، يفترض نظريًا أن تكون "الأقصر عمرًا"، بانتظار حدّ أدنى غير متوافر من التوافق، فيما ملف ​ترسيم الحدود البحرية​، الذي أعيد استحضاره على وقع الاستفزاز الإسرائيلي، "عالق" على وساطة أميركية، يشكّك بها كثيرون بوصفها منحازة.

لكن الهدوء، الذي يكاد يرقى لمستوى "البرودة" في الأداء اللبناني، الذي يشكو برأي البعض من "تخبّط" لم يعد خافيًا على أحد، يصطدم بإقليم "ملتهب" تتسارع فيه التطورات، حيث حفلت عطلة نهاية الأسبوع مثلاً بأحداث "دراماتيكية" على أكثر من خط، بدءًا من استهداف مطار دمشق، وصولاً إلى تسريبات إسرائيلية عن نشر منظومة رادارات في بعض دول ​الشرق الأوسط​ والخليج، لمواجهة "التهديدات الصاروخية الإيرانية".

يتزامن ذلك مع مؤشرات توحي بانهيار ​المفاوضات النووية​ بين إيران ودول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بعدما كان كثيرون يعوّلون على إحياء الاتفاق النووي، لإعادة "الاستقرار" إلى المنطقة، ومع تهديدات متبادلة وصلت حدّ تحذير إيران لدول وصفتها بـ"الشقيقة"، من العلاقة مع إسرائيل، وسط حديث إسرائيلي أيضًا، لم تثبت صحّته، عن "إحباط" هجوم إيراني ضدّ أهداف إسرائيلية في تركيا.

وكأنّ كلّ ما سبق لا يكفي لقرع "طبول الحرب"، جاءت تهديدات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ​أفيف كوخافي​ المباشرة للبنان، متحدّثًا عن "آلاف الأهداف" التي جرت بلورتها وسيتمّ "تدميرها"، لترفع من مستوى "الغموض"، فهل باتت الحرب فعلاً وشيكة، بل أقرب من أيّ وقت مضى كما يقول البعض؟ وهل يكون لبنان، مرّة أخرى، ساحة لهذه الحرب، أم أنّ التهديدات لا تعدو كونها محاولة "ضغط" على لبنان لتقديم "تنازلات" في ملف الغاز؟!.

استنادًا إلى ما تقدّم، يضع كثيرون التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان، والتي قد تكون الأولى من نوعها منذ فترة طويلة، مرتبطة عمليًا بالجو المشحون في الإقليم، وغير معزولة عنه، فتمامًا كما تتحدّث إسرائيل عن تحوّل تركيا إلى دولة "خطيرة" على الإسرائيليين المعرّضين فيها لمحاولات اغتيال واختطاف، قد يكون استخدام الساحة اللبنانية أيضًا مطروحًا على "الأجندة"، في "تكتيك" يهدف في مكان إلى "اختبار القوة" في المقام الأول.

ويقول البعض إنّ إيران أيضًا قد لا تتردّد في توجيه "رسائل الردع" إلى إسرائيل من البوابة اللبنانية تحديدًا، حيث تمتلك إحدى أكثر نقاط قوتها، ممثَّلة في "​حزب الله​"، الذي أعلن مرارًا أنّه جاهز للدفاع عنها، علمًا أنّ الكثير من الخبراء العسكريين يقدّرون أنّ أيّ حرب تنشب في المنطقة لن تكون "محصورة" بحدود معيّنة، بل إنّها ستشعل فتيل نار المواجهة على كلّ الجبهات دفعة واحد، وبالتالي فإنّ لبنان سيكون جزءًا أساسيًا منها.

لكنّ أصحاب وجهة النظر هذه يعتقدون أنّ مثل هذه "الحرب الشاملة" لا تزال مُستبعَدة في الوقت الراهن، باعتبار أنّ المجتمع الدولي المنهمك أساسًا بدهاليز حرب أوكرانيا التي تبدو بلا أفق حتى الآن، ليس مستعدًا لأزمة جديدة، سيتأثّر بها بشكل مباشر، رغم ازدواجية معاييره، خصوصًا بالنظر إلى "ورقة اللاجئين" التي يعتقد كثيرون أنّها التي لا تزال "تحمي" لبنان من خطر الحرب منذ سنوات.

وعلى أهمية هذه القراءة، وربما واقعيتها في ظلّ المؤشّرات التي تتكاثر في الأيام الأخيرة، فإنّ هناك من يرى "مبالغة" فيها، باعتبار أنّ لبنان، ولو لم يكن جزيرة معزولة، ليس حتى الآن جزءًا من الصراع الحاصل في المنطقة، مع كلّ تشابكاته وتعقيداته، فضلاً عن أنّ الاستحقاقات التي يواجهها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لا تتيح له "ترف" خوض أيّ حروب، بالأصالة أو بالوكالة، ولو امتلك "المقوّمات" اللازمة لذلك.

ويعتقد هذا البعض أنّ التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان مرتبطة "حصرًا" بملف ترسيم الحدود البحرية، وهي تشكّل في الحيّز الأكبر منها، "ردًا" على الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي وإن تفاوتت قراءاته بين مختلف الأطراف، حمل "تصعيدًا واضحًا" في وجه إسرائيل، ورفضًا للمسّ بثروات لبنان البحرية والنفطية، ما دفع كثيرين لاعتباره "خطابًا حربيًا" بامتياز، ولو ترك هامشًا للمعالجة.

ولعلّ ما سعت إليه إسرائيل من خلال رفعها سقف التهديد ضدّ لبنان، عطفًا على خطاب السيد حسن نصر الله، هو محاولة إرساء "توازن ما"، إلى جانب "الضغط" على المسؤولين اللبنانيين حتى لا "يبالغوا" في طموحاتهم، فيقدّموا "التنازلات" المطلوبة في تحديد الحدود، علمًا أنّ هناك من يعتبر أنّ إسرائيل "مستعجلة" لحسم الأمر، لأنّها تطمح للعب دور "مصدّر الغاز" إلى الغرب، خصوصًا في ظلّ "القطيعة" مع روسيا، بعد الحرب على أوكرانيا.

لكن هناك من يعتبر أنّ "الاستفزاز" الإسرائيلي ما كان ليحصل لولا "الخطايا" التي ارتكبها لبنان مرّة أخرى، في إدارة ملفّ بهذا الحجم، في ظلّ تخبّط داخلي هائل، وعدم قدرة المسؤولين على الخروج بموقف موحّد لجهة الحدود البحرية، علمًا أنّ الإسرائيليين "يستغلّون" هذا الوضع، الذي إذا ما استمرّ قد يكون بمثابة "هدية مجانية" لإسرائيل، التي بمجرّد أن تبدأ باستخراج الغاز، لا يعود بوسع لبنان أن يشكو أو يطالب بما يعتبره "حقه".

يرى كثيرون أنّها "طبول الحرب" تُقرَع في المنطقة برمّتها، وليس في لبنان فحسب، لكنّ التقديرات العسكرية تشير إلى أنّها لن تصل إلى حدود "المواجهة المباشرة" في الوقت الحاليّ على الأقلّ، وأنّ كلّ التهديدات لا تعدو كونها محاولة لترتيب الأوراق وقلب بعض المعادلات، ولو أنّ هناك من يصرّ على أنّ الحرب آتية لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، بل إنّ ميعادها قد يكون "أقرب من أيّ وقت مضى"!.