بعد مرور شهر كامل على الانتخابات النيابية التي اعتُبِرت حكومة ​نجيب ميقاتي​ بموجبها مستقيلة، وتحوّلت مهامها إلى ​تصريف الأعمال​، في مرحلة "استثنائية" قبل أشهر من انتخابات رئاسية مفترضة، حدد رئيس الجمهورية ميشال عون موعد ​الاستشارات النيابية​ الملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد، لكن بعد أسبوع من اليوم.

قيل الكثير في معرض تأخير تأجيل الاستشارات كلّ هذه المدّة، رغم أن البلاد لا تحتمل "ترف" أيّ تأخير أو مماطلة، ومن بين ما قيل أنّ رئيس الجمهورية أراد انتظار إنجاز مجلس النواب لـ"مطبخه التشريعي"، عبر انتخاب لجانه، قبل أن يقفز إلى الصدارة ملف الترسيم البحري، فيضطر إلى انتظار انتهاء زيارة الوسيط الأميركي الذي "استدعي" على عجل.

لم تَبدُ مثل هذه الأسباب مقنعة، خصوصًا بغياب أيّ رابط "منطقيّ" بينها وبين الاستشارات، ليبدو مرّة أخرى أنّ السبب الأساس لا يعدو كونه أنّ رئيس الجمهورية، ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" ​جبران باسيل​، لا يريدان الذهاب إلى استشارات "غير مضمونة" النتائج سلفًا، وهو ما يستدعي التوصّل إلى حدّ أدنى من التوافق على شكل الحكومة قبل تحديد رئيسها.

ولأنّ هذه الأقاويل تزامنت مع هجوم عنيف شنّه باسيل على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وهو الذي يُعتبَر المرشح الأوفر حظًا للحصول مجدّدًا على لقب رئيس الحكومة المكلَّف، بفضل أصوات "حلفاء" باسيل لا "خصومه"، فإنّ أسئلة تُطرَح عن "مصير" الاستشارات في هذا الوضع، وما إذا كانت ستفضي فعلا إلى إعادة تكليف ميقاتي رغم التحفظات.

في الشكل قبل المضمون، يرفض المقرّبون من رئيس الجمهورية أيّ "همس" يصدر هنا أو هناك حول أنّ الرئيس خالف الدستور بتأخره في الدعوة إلى الاستشارات، لأنّ الدستور لم ينصّ صراحة على أيّ "مهلة مقيّدة"، وهو ما "يجتهد" مستشارو الرئيس في تفسيره، ليعتبروا أنّ الرئيس هو الذي يختار توقيت الاستشارات، وفقًا للاعتبارات التي يحدّدها بنفسه، فيما يرى الرافضون "مغالطة" في التفسير، لأنّ مبدأ "الفورية" واضح في "روحيّة" النصّ.

ومع أنّ ​الرئيس ميشال عون​ سبق أن مارس هذا "العرف" في العديد من محطات "عهده"، فضلاً عن وجود "سابقة" في هذا المجال أسّس لها سلفه الرئيس السابق ميشال سليمان، فإنّ المحسوبين عليه "يستهجنون" إثارة هذا الجدل من جديد في كلّ مرة، علمًا أنّ الرافضين لاستخدام الرئيس لهذه الصلاحية الدستورية هم أنفسهم من يدافعون عن "المهلة المفتوحة" لرئيس الحكومة المكلف في تأليف حكومته، لحدّ البقاء بلا حكومة إن هو قرّر "الاعتكاف" مثلاً.

ويعتبر المقرّبون من رئيس الجمهورية أن تأخير الاستشارات، وإن رُبِط ببعض الاستحقاقات التي شهدتها البلاد منذ الانتخابات النيابية، والتي قفزت إلى صدارة الاهتمام، وآخرها استحقاق ​ترسيم الحدود البحرية​، في ضوء الاستفزازات الإسرائيلية التي وجب التعاطي معها على وجه السرعة، إلا أنّ مردّه الأساس يبقى البحث عن "توافق"، لا من أجل ضمان الحصول على بعض المقاعد والحصص، كما يروّج البعض، ولكن لضمان تشكيل حكومة بدل هدر الوقت.

ولعلّ العودة إلى الماضي القريب تنفع في "توضيح" وجهة النظر هذه، وفق المحسوبين على الرئيس، إذ قبل تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، كُلّفت شخصيتان، هما السفير مصطفى أديب، ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري، وقد اعتذرا بعد أشهر طويلة من المناكفات، لعجزهما عن تأليف أيّ حكومة، وهو ما كان يمكن تفاديه بالاتفاق على الخطوط العريضة للحكومة قبل تسمية رئيسها، خصوصًا أنّ البلد لا يحتمل اليوم أيّ "مغامرة" قد تقود إلى "اعتذار".

لكن، ما صحّة وقوف الوزير السابق جبران باسيل خلف تأخير الاستشارات؟ وهل صحيح أنّ الرجل يحاول فرض شروطه سلفًا، وهو ما ألمح إليه أساسًا في إطلالته التلفزيونية الأخيرة؟ وماذا لو حصلت الاستشارات اليوم؟ هل تفضي إلى إعادة تسمية رئيس حكومة تصريف الأعمال، رغم معارضة باسيل الصريحة، بعد وصول العلاقة بين الرجلين إلى حائط "القلوب المليانة"؟.

صحيح أنّ الكثير من الأسماء "الجدية" لم تُطرَح بعد، وأنّ معظم الكتل تترك خياراتها للحظة الأخيرة، إما لأنها مترددة ولم تحسم أمرها بعد، أو لأنّها ببساطة لا تريد "إحراق" مرشحيها في "بازار" التسميات، إلا أنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّ ميقاتي يبقى بالفعل الأوفر حظًا، لكونه مدعومًا من مرشحي "الثنائي الشيعي"، وفي ظل "التشتت" الذي يصيب نواب المعارضة، ما قد يتيح تسميته وفق "سيناريو الـ75" الذي أفضى إلى انتخاب ​نبيه بري​ رئيسًا للبرلمان.

ويذهب البعض أبعد من ذلك، بالتأكيد أنّه في حال "اتفاق" قوى المعارضة، من سياديّين وتغييريين، على اسم موحّد، فإنّ "سيناريو" انتخاب الياس بو صعب نائبًا لرئيس المجلس يوضَع عندها على الطاولة، ليبقى ميقاتي رابحًا، للكثير من الاعتبارات، أولها أنّ "حزب الله" يعتبره أفضل الخيارات في المرحلة الحاليّة، سواء لجهة استكمال ما بدأه في الحكومة السابقة، أو لجهة قدرته على العبور بين "الألغام"، والحفاظ على علاقة جيّدة مع كلّ الأطراف.

من هنا، يُعتقد أنّ نجيب ميقاتي كان سيصبح رئيسًا مكلفًا للحكومة، في حال حصول الاستشارات اليوم، لكنّ السؤال الكبير الذي يطرح المحسوبون على رئيس الجمهورية والوزير باسيل يبقى: ماذا بعد؟ هل سيستطيع عندها تشكيل الحكومة، بالاستناد إلى الأصوات التي كلّفته؟ وكيف سينجح في ذلك إذا كان يرفع "لا" في وجه كلّ مطالب باسيل وطروحاته؟ وكيف سيحصل على "توقيع" رئيس الجمهورية على مراسيم حكومته، إذا كان "التفاهم" متعذّرًا؟

لهذه الأسباب، يقول المقرّبون من الرئيس إنّ الأخير يريد نجاح الاستشارات لا مجرد حصولها، وتحقيق الغاية المنشودة منها. وفيما يقول الخصوم، ولهم حجّتهم القانونية، أنّ مثل هذا الأمر يفرغ الاستشارات من مضمونها، ويلغي الديمقراطية، ويحوّل النواب إلى مجرّد "مصدّقين" على التسويات والتفاهمات، يبقى "الأخطر" أن تفضي الاستشارات إلى "تكليف بلا تأليف"، في ظل مهل أكثر من "ضيّقة"، مع الاقتراب من نهاية "العهد"!.