يَكفي أن نَقُولَ "وَالِدَةَ الإله" لِندخُلَ في سِرِّ الأَسرارِ الّذي تَعجَزُ العُقولُ عَن تَفسيرِه. فَكيفَ لإنسَانَةٍ مَخلُوقَةٍ أن تَلِدَ خالِقَها وإلهَهَا ومُخَلِّصَها؟ وهِيَ التي قَالَت: "تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ[1]"! فِعلًا عَجَبٌ عُجاب.

لُغَوِيًّا "السِّرُّ" هُوَ المَخفِي وخِلافُ المُعلَن، أمَّا في المَسيحِيَّةِ فَلَهُ أبعادٌ أعمَقُ بِكَثير.

هُو أَوَّلًا مُرتَبِطٌ بِاللهِ، وثَانِيًا مُرتَبِطٌ بِتَدبِيرِهِ الخَلاصِيّ لِلإنسَان. فَمِن جِهَةِ التَّدبيرِ، يُعلِنُه اللهُ لَنا كَمَا حَدَثَ في بِشارَةِ مريمَ العَذراءِ بِالحَبَلِ الإلَهيّ، أَمَّا مِن نَاحِيَةِ اللهِ فَهُو أَمرٌ يَتعدَّى العَقلَ البَشرِيّ المَخلُوقَ: كَيفَ تَمَّ الحَبَلُ الإلَهِيُّ في أَحشَاءٍ بَشَرِيَّة؟ وكَيفَ للإلَهِ أَن يُصبِحَ إنسانًا مِثلَنا؟ هَذا عَمَلُ لله.

أَمامَ هَذا الأَمرِ نَجِدُ مَن يَرفُضُ السِرَّ الإلَهِيَّ لِعَدَمِ قُدرَتِهِ على فَهمِهِ وتَحلِيلِه، وعِوَضَ أن يَرتَفِعَ هُوَ، يَضَعُ عَمَلَ اللهِ في مَحدُودِيَّةِ عَقلِهِ المَخلُوقِ فَيَرفُضُه.

شُروحَاتُ آباءِ الكَنيسَةِ القِدّيسِينَ حَولَ الأَسرَارِ الإلَهِيَّةِ، وكَيفِيَّةِ التَّعاطي مَعَها وعَيشِها بِالنِّعمَةِ الإلَهِيَّةِ، كَثيرَةٌ وغَنِيَّةٌ جِدًّا وكَافِيَة، ويَأتي مَا يَقُولُه القِدّيسُ أَثناسِيوسُ الكَبيرُ[2] في هَذا الأَمرِ خَيرَ مِثالٍ على ذَلِك: "لا يُمكِنُ لِعَقلِ الإنسَانِ المَخلُوقِ أَن يَعلُوَ على مَن خَلَقَه، لِذا يَبقى مَحدُودًا أَمامَ قُدرَةِ الخَالِق"، ويَشرَحُ أنَّ كُلَّ مَا فَعلَهُ اللهُ، إنَّما فَعَلَهُ مِن أَجلِنا، وَهُوَ عَطِيَّةٌ ونِعمَةٌ لأنَّهُ يُحِبُّنا.

هُنا أنتَقِلُ لأَذكُرَ ما كَتَبَهُ البَاحِثُ في تَارِيخِ الفَن، والمُتَخَصِّصُ في العُلُومِ البِيئيَّةِ Guillaume Logé[3] ، في كِتابِهِ الرَّائِعِ "Renaissance Sauvage"، على "السِرّ الكونيّ"، والذي يَشرَحُ في كِتابِهِ هَذا عَلاقَةَ الإنسانِ بِالقُوى الكَونِيَّةِ والروح ِ المُحرِّكَة، وبَحثَ المَرءِ الوُجُوديّ النَّابِعَ مِن شَوقٍ كَبيرٍ مَوجُودٍ دَاخِلَ الإنسانِ ذَاتِهِ، للاتِّحادِ بِهَذِهِ القُوى الّتي هِيَ بِمَثابَةِ سِرٍّ غَامِضٍ بِالنِّسبَةِ لـ Logé. ويَشرَحُ، بِشَغَفٍ وعُمقٍ كَبيرَين، تَرجَمَةَ هذا البَحثِ مِن خِلالِ الأعمَالِ الفَنيَّةِ عَلى مَرِّ التَّارِيخ.

لقد سَبَقَ للآبَاءِ القِدّيسِينَ في الكَنيسَةِ، أن تَكَلَّمُوا عَلى هَذا الحَنينِ عِندَ البَشَرِ، وعَلى البَحثِ الوُجُودِيّ بِإسهَابٍ، إن في كِتابَاتِهم، أو في رَسائِلِهم، أو في حِوارَاتِهم، أو في عِظاتِهم. وأَشارُوا بِوُضوحٍ تَامٍّ إلى أَنَّ هَذا البَحثَ الدَّاخِليَّ عِندَ الإنسَانِ، هُوَ تَوقٌ كَبيرٌ وحَارٌّ لاتِّحادِ الرُّوحِ بِخَالِقِها.

كَما أَكَّدُوا على أَنَّ هَذا البَحثَ الوُجُودِيَّ عِندَ الفَلاسِفَةِ وغَيرِهِم، قَبلَ المَسيحِ وبَعدَه، مَا هُوَ إلّا بَحثٌ عَن إلَهِنا المُتَجَسِّدِ الّذي صَارَ إنسَانًا مِن أَجلِنا، وإن لَم يُسَمُّوه، أو لَم يَعرِفُوهُ، أَو لَم يَكُن يَسوعُ قَد تَجَسَّدَ بَعد.

وبالعَودَةِ إلى Logé، نَجِدُهُ يَقُولُ عَنِ "السِرِّ الكَونِيّ: "أَن تَكُونَ عَقلانِيًّا، هَذا يَعني أَن تُدرِكَ أَن ما يُمكِنُ أن نُسمِّيهِ لُغزًا، هُوَ جُزءٌ لا يَتَجَزَّأُ مِنَ الوَاقِعِ". وَيُكمِلُ، "السِّرُّ، لَيسَ فَشَلًا فِكرِيًّا، بِالعَكسِ تَمامًا، بَل هُوَ فِكرٌ نَاضِجٌ ومَسؤولٌ، وهُوَ أَقرَبُ مَا يَكونُ إلى مَا هُوَ وَاقِعي".

ويُؤَكِّدُ Logé أَنَّ سَعيَ الإنسَانِ لإدرَاكِ السِرِّ الكَونِيّ هُوَ التِزَامٌ وبَحثٌ جَدّيٌّ ضِمنَ الوَعي الإنسَانِيّ الوُجُودِيّ. وهَذَا الأَمرُ هُوَ بِمَثابَةِ حَلَقَةُ وَصلٍ تُوصِلُنا إلى الاتِّحَادِ بِهَذِهِ القُوى الكَونِيَّة. ويُنهِي كَلامَهُ في هَذا المَوضُوعِ، أَنَّ "السِرَّ" لَيسَ "لا شَيء"، بَل هُوَ مَا لا يَستَطِيعُ الإنسَانُ إدرَاكَه. وأَنَّ الاعتِرافَ بِهِ هُوَ اعتِرافٌ بِمَحدُودِيَّتِنا الّتي يَجِبُ أن نُقِرَّ بِها. ويُقَدِّمُ خُلاصَةً جَميلَةً، أَنَّ الإنسَانَ غَيرُ مَدعُوٍّ لِيَكُونَ سَيِّدَ العَالَم، وهَدَفُ العِلمِ والبَحثِ الوُجُودِيّ أَن نكونَ في العَالَمِ بِتَناغُمٍ بَنَّاءٍ ونَرقُصَ مَعه، ولا نُسيءَ إلَيه.

صَرخَةُ Guillaume Logé هذِه لا تَكتَمِلُ في الوَاقِع وتَتَحقَقُ إلّا باكتِشافِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ والاتِّحادِ بِه. لأنَّ الرَّبَّ يَجعَلُنا نَعيشُ بِتَناغُمٍ كُليّ، مُثمِرٍ وبَنَّاء، وَهُوَ تَناغُمٌ ثَالُوثِيٌّ مُفعَمٌ بِالسَّلامِ، مَعَ اللهِ الخَالِقِ، وَمعَ العَالَمِ مِن حَولِنا، ومَعَ ذَواتِنا. وَهَذا السَّلامُ والتَّناغُمُ الفَرِحُ يَمتَدُّ مِن جِيلٍ إلى جِيلٍ، ومَن عَاشَهُ شَهِدَ له.

في هَذا الإطَارِ، يَأتي اليَومُ الثَّاني مِن شَهرِ تَمُّوزَ، والّذي هُوَ اليَوم، لِيَضَعَ أَمامَنا تَناغُمًا إلَهِيًّا كَبيرًا بَينَ الخَالِقِ والمَخلوقِ، إذ نُقيمُ في هَذا التَّاريخِ ذِكرى وَضعِ ثَوبِ وَالِدَةِ الإلَهِ في كَنيسَةِ Blachernes في شَمالِ القِسطَنطِينِيَّةِ، فِي القَرنِ الخَامِسِ، إبَّانَ حُكمِ الإمبرَاطُورِ الرُّوميّ (البِيزَنطِيّ) لاونَ الكَبير. وقد أَحضَرَ الثَّوبَ مَبعُوثَا الإمبرَاطُورِ مِن مَدِينَةٍ صَغِيرَةٍ قُربَ النَّاصِرة. فَبعدَ أن كَانا يَبيتَانِ عِندَ امرَأةٍ مَسيحِيَّةٍ تَقِيَّةٍ مِن أَصلٍ يَهُودِي، وذَلِكَ خِلالَ رِحلَةِ حَجٍّ إلى الأَراضِي المُقَدَّسَةِ، شَاهَدَا العَجائِبَ الّتي كَانَت تَجرِي في رُكنِ صَلاةٍ في بَيتِها. وبَعدَ إلحَاحِهِما بِسُؤالِها عَمَّا يَجري، كَشَفَتْ لَهُما وُجودَ ثَوبِ وَالِدَةِ الإلَهِ في المَكانِ دَاخِلَ صُندُوق. وقَد وَرِثَتهُ لأنَّها مِن عَائِلَةٍ رَافَقَت وَالِدَةَ الإلَهِ حتَّى يَومِها الأَخيرِ عَلى الأرض. وبَعدَ أَن عَرَّفاهَا بِنَفسَيهِما، وكَانَا شَقيقَين، مَنَحتهُما الثَّوبَ لِيُوضَعَ في القِسطَنطِينِيَّةِ، فَيتبَارَكُ مِنهُ أَكبَرُ عَدَدٍ مِنَ المُؤمِنِين.

يَصِفُ الشَّقيقانِ رُكنَ الصَّلاةِ بِالعَالَمِ الوَاسِعِ وَالكَبيرِ الّذي لا يَحُدُّهُ شَيءٌ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ زَاوِيَةً في مَنزِل. ويَقُولان: كَانَت رَائِحَةُ البَخُورِ تَضُوعُ مِنَ المَكانِ فتَملأ الكَونَ أَجمَع. تَنظُرُ إلى أَعلى فَتَخالُ أن لا سَقفَ في المكانِ، بَل سماءٌ مَفتُوحَةٌ ومَلائِكَةٌ تُسبِّح، وصَفٌّ مِنَ المَرضى يتَوافَدُونَ إلى المكانِ الّذي صارَ مِحوَرَ الكَون.

لا أَهميَّةَ لِثَوبِ وَالِدَةِ الإلَهِ لَو لَم تَتَقَدَّسْ هِيَ، وتَعِشْ بِتَنَاغُمٍ كُلّي مَعَ كَلِمَةِ اللهِ الحَيّ. هِيَ كَانَت بِكُليَّتِها لِلرَّبِّ، قَلبًا وقَالِبًا. ولا شَيءَ يُحَرِّكُها إلّا رُوحُ اللهِ القُدّوسُ، وهي تُطيعُ طاعةً كاملةً وبِملءِ إرادَتِها وكامِلِ حُريَّتِها. وقَداسَةُ والدة الإله شاعَت في كُلِّ الأرضِ، ونَحنُ مَدعُوونَ لِنُماثِلَها.

هَذا هُوَ السِّرُّ الكَبير: العَلاقَةُ الإلَهِيَّةُ-الإنسَانِيَّةُ الّتي يَدعُونا اللهُ إلَيها. وَكَما يَقُولُ القِدّيسُ ديديموسُ الضَّرير[4]: "اللهُ أَصبَحَ إنسَانًا لِيُصبِحَ الإنسَانُ إلَهًا". وهَذا مَا قَالَهُ أيضًا القِدّيسُ أَثناسيوسُ الكَبيرُ وغيرُه كَثيرٌ مِنَ القِدّيسِين.

لِهَذا يُخاطِبُ بُولُسُ الرَّسولُ البَشَرِيَّةَ مُعلِنًا: "ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآب».

دعُونا نَعيشُ هَذا السِّر.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. لوقا ٤٧:١-٤٨

[2]. ٨/٢٩٦-٣٧٣

[3]. «Guillaume Logé, Renaissance sauvage : l’art de l’Anthropocène », 2019 Critique d’art - Guillaume Logé, Docteur en esthétique, histoire, théorie de l'art et sciences de l'environnement.

[4]. ٣١٣-٣٩٨