ما زالت أنطاكية تُنجب عظماء منذ أن دُعي التلاميذ مسيحيين أولًا فيها. كنيسة أنطاكية لا تزال تحاكي الأرض بالسماء، ببركة شيخ جليل جعل منها منارة مشعّة ضمن كنائس العالم. اليوم يردّد في صومعته: "لا تَتَخَلَّى عَنِّي يا اللهُ فِي شَيخُوخَتِي، لِكَي أُخبِرَ الجِيلَ الآتِيَ بِقُوَّتِكَ"(مزمور ١٨: ٧١).

تسعة وتسعون عامًا وما زال ينبض بلاهوت يوحنا وإناء بولس. إنّه ذلك الثائر الذي حوّل أنطاكية إلى حقلٍ خصب، زرع فيه مع اترابه، بذور النهضة، فحصدوا الإيمان والرجاء والمحبة. إنه ذلك المارد، الذي تربّع على عرش أبرشيّة جبل لبنان لخمسين سنة، فغدت معه مسرحًا للكلمة وملعبًا للمعرفة.

لم يساوم ولم يهادن ولم تغرّه المناصب ولا السلطة أو الجاه، إنه شيخ أنطاكية، الذي جعل روح الشباب تسيطر على نفحات الروح في كنيسته الأرثوذكسية. لم يستسلم ولم يستقل من مركزه، إنما استعفى ليبقى الروح فاعلًا في الكنيسة. فهم قول بولس الرسول أن "الحَياةُ بِالإيمان لِذَلِكَ نَحنُ لا نَستَسلِمُ. بَلْ حَتَّى لَو كانَتْ أجسادُنا المادِّيَّةُ تَقتَرِبُ مِنْ فَنائِها، إلّا أنَّ كَيانَنا الدّاخِلِيَّ يَتَجَدَّدُ يَوماً بَعدَ يَومٍ"( ٢ كورنثوس ١٦: ٤).

كلما التقيته، تلمس لمس اليد أن كنيسة المسيح محفوظة في صلواته وأدعيته. يحدّثك بشغف العاشق عن الله، ويأتيك بآيات واستشهادات من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا.

إنّه ملاك أبرشية جبل لبنان السابق، إنه حامل انطاكية في فكره وعقله وقلبه، إنه الراعي الصالح وعاشق الله، إنه جورج خضر الذي يبلغ في السادس من شهر تموز التسعة والتسعين من العمر.

هذا الأسقف الذي قاد أبرشيته بحكمة الحيّات ووداعة الحمام. لم يتأخّر لحظة عن الوقوف إلى جانب كهنته وشعبه. احتضنهم وغذّى فيهم روح العطاء والتضحية والتواضع والثقة المطلقة، ليكونوا غاسلي أرجل لأبنائهم.

قصدته مرة شاكيًا أمرًا، واعتذرت عمّا حملته من ازعاج، فجاوبني ببساطة "لماذا أنا موجود هون". سكب الله في جورج خضر مواهب ووزنات كثيرة، استثمرها لمصلحة الكنيسة، ولم تغرّه المدائح والألقاب، همّه كان، وما زال، أن تبقى وجوهنا مرآة لوجه السيد المسيح.

جورج خضر، أيقونة أنطاكية الحديثة، أغنى مكتبتها اللاهوتية والروحية والفلسفية والفكرية، بمقالات ومواضيع عديدة ومهمّة، باتت مرجعًا لكل دارس ومهتم، ولكل باحث في مجال العلاقات بين الكنائس وبين الطوائف والأديان. تخطّى حدود اللاهوت المسيحي ليدخل ويتعمّق في الإسلاميات، وتفوّق.

ظُلم أحيانًا من الذين اساؤوا فهمه في بعض المجالات، لكنّ التاريخ أنصفه، على كافة الصعد والمستويات، بشهادة القريبين والأبعدين. وهو الذي عاش مأساة منذ تربّعه على كرسي أبرشية جبيل والبترون وما يليهما، فكانت الحرب اللبنانيّة، ومن ثم حرب الجبل، وحرب الأخوة والاجتياحات المتعدّدة، وشهد على اغتيالات وجوه كثيرة بارزة، وبقي متماسكًا وحكيمًا وغير انفعاليٍ، مترجمًا غضبه حبًّا وصلاةً وسلامًا.

كان القارئون لمقالاته الاسبوعية في صحيفة "النهار"، ينتظرونها لينهلوا منها البصر والبصيرة، وليقاربوا الأمور بموضوعية. صداقاته تتخطّى الحدود الدينيّة والسياسيّة. تصادق مع الكثير من الأئمّة المسلمين واللاهوتيين المسيحيين والعديد من السياسيين، ونخبة من أهل القلم والعلم والفلسفة، وامتدّت هذه المودات إلى الأبناء.

زان كلامه أينما حلّ وتكلّم، بميزان العقل لا الإنفعالات، وقد لقبّه الشاعر سعيد عقل بسيّد البلاغة واللاهوت، بعد رثائه للكبير عاصي الرحباني.

في هذه الأسطر لا أقصد أن أجعل من المطران خضر في مصافي القدّيسين، إنما هذا وفاءٌ بسيطٌ لما زرعه فينا وفي كنيسة إنطاكية، هذا العملاق الذي لن يشيخ.

سيبقى المطران خضر قدوة للذين نالوا النعمة على يديه، وللذين عرفوه عن قرب، وغرفوا من نبع محبّته الشيء الكثير. نشكر الله أنه استجاب لصلواته، وأحاط به الأوفياء والمحبّين، ببركة راعي الأبرشية الحالي المطران سلوان موسى وتوجيهاته.

ردّدت يا سيدنا جورج تلك الآية: "حِينَ أشِيخُ لا تَرْمِنِي بَعِيداً. لا تَتَخَلَّ عَنِّي عِندَ ضَياعِ قُوَّتِي"(مزمور ٩: ٧١)، والرب سامعٌ ومجيب.

أطال الله بعمرك يا سيد الكلمة والبلاغة واللاهوت، أطال الله بعمرك يا عاشق الله، لتبقى بركة في جبل لبنان خصوصًا وأنطاكية عمومًا، وإلى سنين عديدة ومديدة يا سيد.