صحيح أنّ "جبهة" بعبدا-السراي هدأت، بعد "توتر" أصابها على خلفية المسودّة التي قدّمها رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، في مدة "قياسية" لم تصل إلى "عتبة" 24 ساعة بعد انتهائه من الاستشارات النيابية غير الملزمة، حيث اجتمع الرجلان صباح الجمعة، واتفقا على استكمال التشاور وفق المعطيات المتوافرة.

إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ ما تعكسه التسريبات الصحافية عن "استياء" بين الرجلين، وصل إلى "ذروته" مع تداول الإعلام بصورة المسودّة الحكوميّة "بخطّ يد" ميقاتي، لا يبدو "مُبالَغًا به" على الإطلاق، خصوصًا أنّ ذلك ترافق مع تبادل اتهامات لرئيس الجمهورية بأنّه "لا يريد" تشكيل حكومة من الأساس، ولرئيس الحكومة المكلّف بأنّه "يناور" ليس إلا.

وفي حين كان لافتًا في الساعات الأخيرة عودة المطالبة بحكومة "سياسية"، تحترم نتائج الانتخابات، ولا تنطلق من "تركيبة" حكومة تصريف الأعمال، يخشى كثيرون أن تكون البلاد دخلت عمليًا "أزمة تأليف" جديدة، ربما تطول أسوة بالتجارب السابقة، ولا سيما أنّ "تشكيلة" ميقاتي الأولى اصطدمت على ما يبدو بـ"الفيتو العوني"، وفق ما يقول البعض.

لكن، هل تدرك القوى السياسية ما الذي يعنيه "الخضوع" لمنطق "المناورة والمماطلة" في الظرف الحالي، فيما تفصل أشهر معدودة عن الانتخابات الرئاسية التي يفترض أن "تطيح" في طريقها بالحكومة، مطلق حكومة؟ وألا ينبغي عليها بناء على ذلك، "التوافق" بشكل سريع على "الحدّ الأدنى" الممكن من أجل المضيّ بحكومة أصيلة تتصدّى للمهام الكبرى؟.

بمُعزَل عن الإجابات على الأسئلة السابقة، والتي يفترض أن تقود حتمًا إلى تشكيل حكومة تملك حدًا أدنى من الانسجام في أسرع وقت ممكن، بعيدًا عن أيّ "وقت ضائع" يُهدَر على بعض الأفكار غير القابلة للتطبيق أساسًا، فإن الواضح لمن يراقب المشهد السياسي الداخلي أنّ الانقسام العمودي بين مختلف القوى السياسية عاد ليتصدّر الصورة، وأنّ أحدًا ليس بوارد تقديم أيّ "تنازل"، ولو من باب دقّة المرحلة وتداعيات أيّ تأخير في تشكيل الحكومة.

في هذا السياق، يقول المحسوبون على "التيار الوطني الحر" مثلاً إنّ رئيس الحكومة المكلف هو الذي "افتعل السجال" بمحاولته "رمي الكرة" في ملعبهم، من خلال تقديمه صيغة حكومية يدرك سلفًا أنّها "محكومة بالسقوط"، بل إنّه قدّمها من أجل أن "تُرفَض" وفق ما يقولون، لأنّها "ملغومة"، فهو يعرف أنّ رئيس الجمهورية لا يمكن أن يقبل باستهداف "التيار" من خلال "مداورة" لم تشمل سوى حقيبة الطاقة، لأسباب وغايات معروفة وواضحة.

ومع أنّ رئيس الجمهورية يريد تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، لأنّه لا يريد أن ينهي عهده بحكومة تصريف أعمال، كما لا يستسيغ تسليم صلاحيات الرئاسية إلى "الفراغ" في حال عدم انتخاب خلف له في المدّة الدستورية، إلا أنّه لن يقبل بأن "يستضعفه" رئيس الحكومة المكلّف، وهو لن يعطي في نهاية عهده ما رفض إعطاءه سابقًا، وبالتأكيد فهو لن يقدّم مجانًا لميقاتي ما أبى أن يقدّمه سابقًا لرئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، في عزّ "قوته".

في المقابل، يعتبر المقرّبون من رئيس الحكومة المكلّف أنّ الأخير ليس أيضًا في وارد تقديم أيّ "تنازلات" بعد "الحملات" التي شنّها الوزير السابق جبران باسيل بحقّه منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي وصلت إلى حدّ "شيطنته"، بل اعتباره أساسًا في الأزمة التي وصلت إليها البلاد، رغم أنّه تلقّف "كرة النار" بيده، وتصدّى للمهمّة التي وُصِفت بـ"الانتحارية"، حين وافق على تشكيل الحكومة، بعدما جُرّ رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري إلى الاعتذار.

وإذ ينفي هؤلاء أيّ "استهداف مباشر" من جانب رئيس الحكومة المكلّف لباسيل، مستهجنين الحديث عن استثناء "التيار الوطني الحر" من تشكيلته، خلافًا لنتائج الانتخابات، علمًا أنّه لم "يشطب" منها سوى وزير الطاقة وليد فياض، في حين أبقى على سائر الأسماء من حكومة تصريف الأعمال، يعتبرون أنّ لحقيبة الطاقة "حساسيّتها"، في ضوء التدهور الذي طال قطاع الكهرباء، رغم "احتكار" الوزراء "العونيّين" لهذه الحقيبة منذ سنوات طويلة.

وبين هذا الرأي وذاك، يبدو أن تشكيلة ميقاتي الأولى اصطدمت بـ"الفيتو" وسط علامات استفهام تُطرَح عن مدى جدوى "التعديلات الطفيفة" التي يُحكى عن إحداثها عليها في جعلها أمرًا واقعًا، خصوصًا أنّ هناك في الفريق المحيط برئيس الجمهورية، من يدعو إلى تشكيل حكومة "من نقطة الصفر"، بمعنى تكوين من أسماء جديدة بالكامل، لا بالاستناد فقط إلى حكومة تصريف الأعمال، لصالح "ترجمة" نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.

هنا، يعتبر المقرّبون من رئيس الحكومة المكلّف أن الهدف من رفع مثل الشعارات ليس سوى "تضييع الوقت"، إذ لا معنى لـ"توسيع" الحكومة، تحت عنوان "ترجمة" نتائج الانتخابات، طالما أنّ القوى السياسية التي أعطتها الانتخابات حيثيّة، ولم تكن ممثّلة في حكومة تصريف الأعمال، أحجمت من تلقاء ذاتها عن المشاركة في الحكومة الجديدة، وفضّلت البقاء في صفوف المعارضة، إلا إذا كان هناك من يرغب بـ"إجبارها" على الدخول إلى الحكومة.

في المقابل، يرى المحسوبون على "التيار" أنّ المشكلة الجوهرية في الصيغة، إذا كان الحديث عن "حكومة سياسية" بعيد المنال، تكمن في غياب "وحدة المعايير"، إذ لا يمكن لـ"التيار" أن يقبل مثلاً بانتزاع حقيبة الطاقة منه، من دون أن يحصل في المقابل على أيّ حقيبة موازية، خصوصًا أنّ سائر الحقائب بقيت في "جيب" المستأثرين بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر حقيبة المال، وكأنّها باتت مكتوبة باسم "حركة أمل"، من دون أن يعترض أحد.

في النتيجة، توحي كلّ المؤشرات أنّ البلاد دخلت فعلاً في "أزمة تأليف" تشبه كلّ الأزمات السابقة، من دون أن يدرك أحد أنّ "ترف" السجال حول حقيبة بالزائد ووزير بالناقص، وحول امتيازات وحصانات، ليس في مكانه، فالاستحقاقات داهمة، والانهيار على الأبواب، وبينهما انتخابات رئاسية إن لم تحصل، ولم تشكَّل حكومة، قد يدخل البلد في متاهات غير مسبوقة، ووسط "فوضى" اجتهادات لا تبشّر بالخير!.