يَحتاجُ عالَمُ اليَومَ، المُتهالِكُ في التَصارُعِ والمُتخاذِلُ في الإيمانِ، الى مَعلَمٍ مِن الجُدَّةِ يَسيرُ في خُطاه. هو عالَمٌ ما عادَ يَعرِفُ الشَغَفَ، وَواقِعُ ​لبنان​َ أنَّهُ جُعِلَ غَيرَ عاشِقٍ لِشَغَفِهِ، فَما عادَ يَبُثُّ هذا الشَغَفَ الذي فيهِ. وَلا نَجاةَ مِنَ الأغوارِ إلَّا بالشَغَفِ اللبنانيِّ، ذاكَ الذي يَسحُرُ فَيُلينَ المَكاسِرَ، وَيعلو الى حَيثُ تَزدانُ الإستحالَةُ إذ تَشعُرُ أنَّها أدرَكَت المُطلَقَ. أفي ذَلِكَ مُعضِلَةُ الحاضِرَ؟.

العِبرَةُ الأولى لِهذا الشَغَفِ اللبنانيَّ بالمُطلَقِ أنَّ لبنانَ لا تَرادُفَ لَهُ. يَستَقتِلُ بَعضٌ لإلصاقِ صِفاتٍ بِهِ، تَبقى نَواقِصَ لا تَبلُغَ حتى التِماسَ تَطابُقِ المِعنى والمَبنى. نَواقِصَ مانِعَةٌ، لأنَّها تَتَناهى في التَعتيمِ وَلا تَبلُغَ التَفَعلُنِ.

أمَّا العِبرَةُ الثانِيَةُ لِهَذا الشَغَفِ أنَّ لبنانَ لا إلتِحاقَ لَهُ بأحَد. هوَ يُوَسِّعُ مَدى الإتِّساعِ لا العَكس. وَهوَ يَتَرَصَّدُ الجَوارِحَ لِيُعليها لا العَكسُ. وَهوَ الفارِضُ مَعِيَّةَ الخُصوبَةِ لا العَكس. مِنهُ تَتوالَدُ التَطَلُّعاتُ عَلى كَرِّ الآفاقِ، فلا يِستِكينَ مِنها. تَرتَضيهِ هَكذا الأدهارُ، فَيَا مَرحَباُ بِها، هيَ السَوِيَّةُ وَهوَ المُنتَصِبُ بَينَ مُعضِلَةِ الوجودِ وَالعَدَمِ.

وَتَبقى الثالِثَةُ العِبرَةُ أنَّ لبنانَ لا إنتِسابَ بِهِ إلَّا إليِه. هوَ المَشيئَةُ كَما الحُرِيَّةُ إستِحرارٌ، وَهوَ الحَتمِيَّةُ كِما الوِعيُ إستِمرارٌ. وَلا سَحائِبَ إدراكٍ إلَّا في كَثافَةِ الآينونَةِ التي أوانُها مِنهُ.

لِذا فلبنان لا يَقبَلُ التَهوينَ، كَما الوضوحُ لا يَستَسيغُ التَسطيحَ، والعُمقُ لا يُجاهِر إلَّا بالتَدليلِ.

كِفايِتُهُ، هَذا الوقوفُ أبَداً في الرِباطِ بَينَ القَصدِ والحَياةِ. كًينونَتُهُ تَعميرٌ! مَهما تَعاقَبَ مَن حَقِدَ عَلَيهِ لأنَّه كَينونَةٌ وَهوَ حَواضِرُ فَراغٍ، وَمَن إستَعداهُ لأنَّه تَعميرٌ وَهوَ مَواضيَ مَعمِيَّاتٍ. هو نابِضٌ يُسائِلُهُم، وَقَد كَشَفَ مُلَثَّماتِهِم وَعرَّى وجوهَهُم. هوَ المُدمى، مَنهُم، وَبِسَبَبِهِم، وَحدُهُ صائِغٌ مِصيرَهُم. هو باقٍ أمَّا هُم فإلى زَوالٍ.

كما الله وجودٌ، هوَ مَوجودٌ.

كَما الله جَوهَرٌ، هوَ مُتَجَوهِرٌ.

كَما الله واحِدٌ، هوَ أحَدٌ.

وَلا عَجَبَ، إذ في تَكاثُرِهِ يَتكاثَرُ الوجودُ في الجَوهَرِ، والجَوهَرُ في الوجودِ، وَيَتَّحِدانِ في تَوازُنٍ لا موازاةَ لَهُ.

الوَطَنُ المُختارُ

أفي ذَلِكَ خَلاصُ العالَمِ؟.

مَن يُعَطِّلُ حَقيقَةَ لبنانَ هَذِهِ يُغرِقُ نَفسَهُ في جُنوحِ اللاخِلاصِ، هُناكَ حَيثُ الخُنوعُ صِنوَ الخُضوعِ والغُموضُ يُطوِّعُ الجَهالَةَ، في إستِنزافِ دَورانِ الحَلقاتِ المُفرَغَةِ.

لا! لن يَكونَ لبنانُ ما لَيسَ هوَ، مَهما تَعربَدَت إجرامِيَّاتُ العالَمِ، وَتَفَنَّنَت تِيهاً، وإنقَشَعَت مَنَهَجِيَّةً. بَينَك وَبَينَ العالَمِ تَرابُطٌ لا بَل إلتِحامٌ في الهُبوطِ نَحوَ النَهاياتِ.

إلا إقتَنِع أيُّها العالَمُ أن لا سَماءَ لَكَ إلَّا لبنانَ. وَلبنانُ وَحدَهُ يَجبَهُ، عَنهُ وَعَنكَ، تَهوُّراتَكَ وَضياعَكَ وإستِنفادَ مَعاصيكَ. أبِمقدورِكَ الصُعودَ خارِجَهُ... أو مِن دونِهِ؟.

أنَّه أكثَرُ مِن وَطَنٍ. إنَّهُ المُختارُ. الغايَةُ. الأقنومُ. مِن دونِهِ لا ذوويِّاتٍ لَكَ، أي لا إرتِكازَ لِمَرحَليَّاتِكَ، في عُبورِكَ مِنَ الأرضِ الى السَماءِ.

أيا عالَمَ اليومِ، المَفتونَ بِجَبرِ الحَتمِيَّاتِ، لَن يُحَصِّنكَ بِوَجهِ مُعضِلَتِكَ إلَّا لبناُن، وَلَن يَصنَعكَ حَلّاً إلَّا لبنانُ. هو أرضُ ميعادِكَ!.

ألا كُن ما لبنانُ يُريدُكَ أن تَكونَ لِتَخلُصَ: مُخلِصاً لِذاتِكَ الواحِدَةِ، وَقَد تَحَرَّرتَ مِن خِياناتِ غَربِكَ لِشَرقِكَ وَشَرقِكَ لِغَربِكَ، كَما وَمِن نُكرانِ شَمالِكَ لِجَنوبِكَ وَجَنوبِكَ لَشَمالِكَ. بِهَذا التَعاهُدِ، لبنانُ وَحدَهُ خَلاصُكَ!.

لَيسَ إلَّا بِلبناَن تِلكَ الأعجوبَةُ التي بِها يَبلُغُ الإعجازُ في مُعادَلَةِ الإنسِجامِ بَينَ الواقِع والمِثال!.

*الصورة المرفقة هي للرسام أندريه كالفايان