ما كادَت أَبرشيّة بَيْروت المارونيّة، تُعيدُ إِصدار تعميمٍ داخليٍّ سابقٍ، طلبَت فيه مِن "جميع الكهَنة التّابِعين لسُلطتِها الكنسيّة، عدم تلبية دعوات وسائل الإِعلام، المرئيّة والمسموعة، لاستضافتهم في شأن مواضيع سياسيّةٍ عامّةٍ"، حتّى ضجّت وسائل التّواصُل الاجتماعيّ بالتّعليقات، كما وانهالَت المَواقف على تنوّعها وتضادّها في هذا الشّأن، على خلفيّة أَنّ تعاطي عددٍ مِن رجال الدّين بالأُمور السّياسيّة عبر الإِعلام "قد ازدادت وتيرته أَخيرًا".

غير أَنّ التّعميم الكنسيّ، وعلى رُغم إِيجازه الكلاميّ، غير أَنّه أَوجد أَكثر مِن إشكاليّةٍ ومنها:

1-"هل مِن المَسموح للكاهن، أَن يُعبّر عن رأيه مثلًا في ساحات "ثورة 17 تشرين الأول 2019"؟، إِذ سبق وشاهدنا عبر شاشات التّلفزة، عددًا مِن الكهنة يقود باصات "الثُوّار"، وينفخ الكاهن الحماسة فيهم، وهُم يتّجهون بهم إِلى أَماكن تجمُّع المُحتجّين... فيما لا يحقّ لكاهنٍ آخر الحديث، بمسؤوليّةٍ، عبر التّلفزة ووسائل الإِعلام خلال مُقابلةٍ متلفزةٍ، وفي إِطارٍ مُحدّدٍ، علمًا أَنّ الكلام عبر تلك الوَسائل، غالبًا ما يكون أَكاديميًّا، وفلسفيًّا، وأَكثر مسؤُوليّةً ورصانةً، مِن الكلام الشّعبويّ في ساحات "الثّورة"!.

2-وأَمّا الإِشكاليّة الثّانية فهي في عدم التّمييز بَيْن الكلام السّياسيّ والكلام الوطنيّ، إِذ إِنّ المسأَلة نسبيّةٌ، لدرجة أَنّ كلامًا يصدر عن "زيدٍ" مِن النّاس، يُعتبَر سياسيًّا، فيما الكلام نفسه إِنْ صدَر عن "عمرٍ" فهُو "وطنيٌّ"...

لقد عوَّدتنا ​الكنيسة​ المارونيّة المُقدّسة، أَنّ غبطة البطريرك، حين يعظ على المَذبح، إِنَّما هو يتوجّه بكلامٍ وطنيٍّ... فهل الكلام الّذي يحمل وجهة نظرٍ مُغايرةٍ، إِذا ما قيلَ في وسائل الإِعلام، يتغيّر نوعه، وتتبدّل هويّته، ليُضحيَ كلامًا سياسيًّا؟...

وإِنّ مفهومُ السّياسة مُقترِنٌ، نظريًّا، بـ"رعاية شُؤون الدّولة الدّاخليّة والخارجيّة"... والسّياسة، في هذا الإِطار، يُعرّف بها على اعتبار أَنّها -وبحسب هارولد لاسويل- "دراسة السُّلطة الّتي تُحدّد مَن يحصل على ماذا؟ (والمقصود هُنا المصادر المَحدودة)، ومتى؟ وكَيْف؟.

والسّياسة، نظريًّا، قد تكون تكمُن في "أَيّ دراسةٍ لتقسيم المَوارد في المُجتمع عن طريق السُّلطة" (ديفيد إيستون).

كما وعرّفها الشُّيوعيُّون بأَنّها "دراسة العلاقات بَيْن الطّبقات"، فيما عرّف الواقعيُّون السّياسة بأَنّها "فنّ المُمكن"، أَي "دراسة الواقع السّياسيّ وتغييره"...

نقول هذا الكلام، لأَنّ أَيًّا مِن التّحديدات والمفاهيم العائدة إِلى السّياسة، لا يتعارض البتّة مع تعاليم الكنيسة، وروح الخير العامّ فيها... وعليه، فكيف يُمكن منع كاهِنٍ أَكاديميّ–جامعيّ مِن الكلام السّياسيّ؟... وماذا لو كانت الشّخصيّة الدّينيّة المُحترَمة، والمقصودة ضمنًا بالتّعميم الأَبرشيّ الصّادر، هي شخصيّةٌ أَكاديميّةٌ جامعيّةٌ تخرّج على يدَيْها آلاف الطلّاب الجامعيّين، وعنَيتُ بها المونسينيور ​كميل مبارك​، المشهود له بحرصه على الالتزام الكامل بالقوانين الكنسيّة، الّتي يعيشها بالكامل، بعدما حفظها عن ظهر قلبٍ، مُنذ يَوْمِه الكهنوتيّ الأَوّل، أَي لعُقودٍ خلَت من الزّمن!.

3-وأَمّا الإِشكاليّة الثّالثة، فمردّها إِلى القانون الكنسيّ، الّذي لا يمنع الكاهن مِن أَن يكون له رأيٌ، شرط أَلّا يُطلقَه مِن أَمام المذبح المُقدّس.

وبناءً عليه، فما هي تَبِعة عدم التزام الكاهن المعنيّ بالتّعميم الأَبرشيّ؟...

طبعًا لا شيء، ما دام القانون الكنسيّ لم يلحَظ هذه الإِشكاليّة "المُستَحدَثَة"، كما ولم يتمّ التطرّق إِليها البتّة في القانون الكنسيّ!.

4-وبالعَوْدة إِلى "التّبرير" المُتّخَذ في التّعميم الأَبرشيّ، فهو قد أَشار إِلى أَنّ "المَطلوب مِن الكهنة ورجال الدّين، تهدئة النُّفوس وليس تأجيجها، عن طريق تأييد طرفٍ ومُهاجمة طرفٍ آخر. فالظّرف الدّقيق الّذي يمرّ به لُبنان لا يسمح بهذه المُشاحَنات غير المُجدِية. والمَطلوب مِن رجال الدّين، وبالأَخصّ الكهنة، العمل على تَوْحيد الصُّفوف والحَؤُول دون تشرذمها، وليس صبّ الزّيت على النّار".

في الشّكل كما وفي المضمون، لا خلاف على ما ورد أَعلاه... وأَمّا مِن حيثُ الواقِع، فالمُفارقات أَنّ بعض السّاسة والمسؤُولين عندنا، يقصدون درج الدّيمان اليَوْم، لينالُوا بسهامِهم مِن المقام السّياسيّ الأَوّل في الجُمهوريّة اللُبنانيّة. فهل مِن تعميمٍ يمنعُهم مِن هذا التّطاول؟. ولماذا نُحرّم على الكاهن أَنْ يُعبّر عن رأيه، عبر قناة تواصُلٍ مُختصّةٍ، وبعيدًا من مقام البطريركيّة ودرجها، ونُحلّل على الساسة، أَن يضربوا على وتر التّفرقة، من درج الدّيمان؟.

وإِذا كان المونسنيور كميل مبارك، قد أَطلق مواقف في السّياسة في إِطلالةٍ إِعلاميّةٍ قبل أَيّامٍ، لَم ترق للبعض، فاستتبعوا الإِطلالة تلك بعاصفةٍ مِن الرّدود والرُّدود المُضادّة، غير أَنّ التّذكير بالتّعميم الأَبرشيّ، لم يُستتبع كنسيًّا بدعوةٍ إِلى كبح جماح ساسةٍ يُطلقون مَواقف ناريّة مِن المقارّ الدّينيّة والأَماكن المُقدّسة؟... وقد تكون الكنيسة المارونيّة اليوم، أَحوج ما تكون، إِلى "طرد الباعة مِن هيكل الله، وأَن تُذكّرَهم بما جاء في الكتاب: "بيتي بيت صلاةٍ، وأَنتُم جعلتموه مغارة لُصوصٍ"، لا أَن تمنع كاهنًا أَكاديميًّا جامعيًّا مِن أَن يُعبّر عن رأيه...