منذ تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال ​نجيب ميقاتي​ ​تشكيل الحكومة​ الجديدة، بعد الاستشارات النيابية الملزمة، لم يعقد سوى لقاءين "يتيمين" مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، قدّم له في أحدهما مسودّة تشكيلة وزارية "مستنسخة" عن الحكومة الحالية، مع تعديلات كان يدرك سلفًا أنّها "لن تمرّ"، وعاتبه في الثاني على تسريب المسودّة.

ما بعد هذين اللقاءين، وقعت "القطيعة" شبه المعلنة بين الرجلين، بدأت مع "إجازة" ميقاتي الخارجية في مناسبة عيد الأضحى، لكنّها "تمدّدت" بعدها بذريعة مشكلة "بروتوكولية" لا تغني ولا تسمن من جوع، مع حديث مستشاري ميقاتي عن انتظار "اتصال" من دوائر القصر، وإصرار بعبدا على أنّ أبوابها مفتوحة لرئيس الحكومة متى شاء.

في النتيجة، أدار كل من عون وميقاتي "ظهرهما" لبعضهما البعض، ولكن أيضًا للحكومة بالمطلق، حيث بدا أنّ مشاورات تأليف الحكومة "دُفنت في مهدها"، وأنّ أيّ لقاء ثالث يعقد بينهما لن يكون قادرًا على إعادة "إحيائها"، في ضوء قناعة ضمنية لديهما كما سائر القوى السياسية بأنّ معادلة "تكليف بلا تأليف" أضحت أمرًا واقعًا، في الظروف الحالية.

فأين أصبحت مشاورات تأليف الحكومة، وهل من آمال بإمكانية إحيائها في وقت قريب؟ وما صحّة الحديث عن "تسليم" الجميع بأنّ "لا حكومة" قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وهو ما يبرّر تراجع الاهتمام بملف الحكومة في معسكري السلطة والمعارضة؟ وماذا عن "سيناريوهات" ما بعد انتهاء "العهد"، في حال عدم انتخاب رئيس ولا تشكيل حكومة أصيلة؟

في المبدأ، يبدو أنّ الثابت والأكيد، بل المتوافَق عليه بين الجميع ولو أنكروا ذلك، هو أنّ الحكومة "ذهبت مع الريح"، وخير دليل على ذلك أنّها أصبحت "مغيّبة" عن كل الاهتمامات، فلا أحد يسأل عن مشاوراتها أو يكترث لها، وكل الملفات الأخرى باتت متقدّمة عليها، من الترسيم إلى انتخابات الرئاسة، مرورًا بالأزمات المتفرّعة، ولا سيما المعيشية منها، مع عودة ظاهرة "الطوابير" في الأيام الأخيرة، هذه المرّة من بوابة الأفران والخبز.

ويسري ذلك على فريقي عون وميقاتي على حدّ سواء، رغم الاتهامات المتبادلة فيما بينهما، إذ يبدو أنّهما "سلّما" بأنّ الوقت المتبقي على العهد لن يشهد ولادة حكومة جديدة، فمع أنّ هناك من يقول إنّ رئيس الجمهورية لا يرغب في أن ينتهي عهده على مشهد "فراغ" يقول البعض إنّه كان سمته الأبرز، فإنّ بين المحسوبين عليه يؤكدون "تطبيعه" مع هذا الواقع، ولو أنّهم يتحدّثون عن "خطوات" متروكة للوقت "المناسب"، الذي يُعتقد أنّه تأخّر أصلاً.

في المقابل، ليس خافيًا على أحد أنّ رئيس الحكومة المكلف يعتبر نفسه "رابحًا" في كلّ الحالات، فهو "يجمع المجد" من أطرافه، إن جاز التعبير، طالما أنّه رئيس حكومة تصريف الأعمال أيضًا، ما يعني أنّه لن يخسر شيئًا إذا لم يؤلف حكومة في الوقت "الضائع"، وهو نتيجة لذلك، ليس مستعدًا لأيّ "تنازل" لفريق رئيس الجمهورية، بل يعتبر نفسه قادرًا على "فرض الشروط"، تحت طائلة "عدم التأليف"، ولا سيما أنّ الدستور لا يقيّده بأيّ مهلة قانونية.

ولعلّ ما يؤكد هذا المسار يتمثّل في انكباب ميقاتي منذ أيام على نشاطه بوصفه "رئيس حكومة تصريف الأعمال"، وكأنّه وضع لقب "رئيس الحكومة المكلَّف" جانبًا، في وقت يبدو أكثر من لافت، وربما نافر، أنّ أيًا من القوى السياسية الأخرى، المعنية مبدئيًا بالملف الحكوميّ، لا تعيره أيّ اهتمام، في ظلّ غياب كامل للوساطات والمبادرات، التي كانت تظهر عادة عند بروز أيّ عقدة حكوميّة، فكيف بالحريّ إذا كان ثمة "قطيعة" بين من يفترض بهما التأليف.

ويشير البعض إلى أنّ غياب أيّ نوع من المبادرات أو الوساطات، حتى من جانب "حزب الله" مثلاً القادر بسهولة على "جمع" عون وميقاتي من جديد بالحد الأدنى، يعود إلى اقتناع كلّ الأطراف بغياب "الجدوى" من تأليف الحكومة اليوم، خصوصًا أنّه سيكون شبه مستحيل أن "تجتاز" تحدي ثقة البرلمان، قبل أن يتحوّل الأخير إلى هيئة "ناخبة" لا شغل لها سوى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفًا للرئيس الحاليّ، وفقًأ لمقتضيات الدستور.

لكن، ماذا عن "سيناريوهات" ما بعد ذلك؟ ماذا لو لم يتفق المعنيّون على انتخاب رئيس جديد، ودخلت البلاد في دوامة "فراغ" جديد كما حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان، علمًا أن "فخامة الفراغ" لا يزال المرشح الأوفر حظًا لـ"وراثة" الرئيس عون؟ هل يسلّم الجميع أيضًا باستلام حكومة تصريف الأعمال للصلاحيات الرئاسية في مثل هذه الحالة؟.

يبدو هذا الأمر "متروكًا للحظته"، علمًا أنّ "الاجتهادات" الدستورية والقانونية تتعدّد، بين من يعتبر أنّ حكومة تصريف الأعمال، ذات الصلاحيات الضيقة أساسًا، غير مؤهلة لاستلام صلاحيات الرئيس، وبين من يؤكد أنّ الدستور واضح، ولا ليس في مواده، وهو ينصّ على أنّ الحكومة القائمة هي التي تستلم الصلاحيات، من دون تحديد ما إذا كانت أصيلة أو لا، وهو ما يندرج في إطار رغبة المشرّع في منع وتفادي الفراغ، بأيّ شكل من الأشكال.

رغم ذلك، يبدو أنّ "الغموض" سيبقى سيّد الموقف بانتظار "لحظة" يهابها الكثيرون، ففراغ 2022 إن حصل، سيكون "الأصعب" في تاريخ لبنان الحديث، فهو لا يأتي في ظلّ أزمة اقتصادية ومعيشية متفاقمة، ولكنه في ظلّ أزمات سياسية أكبر، وفراغ ثمّة شكوك في قدرة الحكومة "السارية" على ملئه، وربما لذلك ثمّة من "يضغط" من أجل إنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها، لعلّها تنجح في إبعاد "نار" الفراغ عن رؤوس الجميع.

"لا حكومة" إذًا، معادلة تتثبّت يومًا بعد يوم، وتكرّسها ممارسات رئيس الحكومة المكلف، ومعه رئيس الجمهورية، والقوى الداعمة والمعارضة لهما على حدّ سواء. فالقطيعة بين الرجلين تعلو ولا يعلى عليها، يعزّزها غياب الوساطات والمبادرات، والتوافق الضمني على تمرير المرحلة بالتي هي أحسن. لكن السؤال الأكبر الذي يبقى بلا جواب: ماذا بعد؟!.