كَتَبَ الأرشمندريت Placide Deseille[1] ، في كتابِهِ الرَّائع "طُرُقُ القَلبِ Les Chemins du Coeur[2]"، والّذي يَعرِضُ فيهِ التَّعليمَ الرُّوحيَّ لآباءِ الكَنيسة، كما هُوَ العُنوانُ المُرادِفُ لِهذا الكِتابِ، كَتَبَ في فَصلِهِ الأَخيرِ بِشَكلٍ مُلَخَّصٍ عَن سِفر نَشيدِ الأناشيد، وكيف فَهِمَهُ الآباءُ القِدّيسون، فكانَ فَصلُهُ الصَّغيرُ مَدخَلًا إلى عِشقٍ ما بَعدَهُ عِشق.

يُعرَفُ هذا السِّفرُ بِنَشيدِ أناشيدِ سُلَيمانَ، كمَا هُوَ مُدَوَّنٌ في الآيَةِ الأُولى مِنه، ويُمكِنُ تَشبيهُهُ بِسمفُونِيَّةِ عِشقٍ مُتبَادَلٍ بينَ حَبيبَةٍ وحَبيبِها.

بِالرُّغمِ مِن أنَّ هَذا السِّفرَ يَحوي صُوَرًا شِعرِيَّةً قد تَبدُو إبَاحِيَّةً بَعضَ الشَّيءِ، إلّا أنَّ الكَنيسَةَ اعتَبَرتِ الوَصفَ فِيهِ مَجازِيًّا، وطبَّقَته على عَلاقَةِ عِشقٍ مَعَ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيح، كَعلاقَةِ عِشقٍ بَينَ زَوجٍ وزَوجَتِهِ، ولَكن هُنا في خِدرٍ سَماوي. وهَذا مَا جَعَلَ Placide يَربِطُ سِفرَ نَشيدِ الأَناشيدِ بِإنجيلِ يُوحَنَّا الحَبيبِ الّذي كَتَبَ: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا ١٤:١). فـَ"الكَلِمَةُ الإلهيُّ" المُتَجَسِّدُ هُوَ مُشتَهى كُلِّ عَاشِقٍ، هُوَ الّذي عَشِقَنا أَوَّلًا وأَتَى إلَينا.

نَحنُ في حَالَةِ عِشقٍ دَائِمَةٍ مَعَ الرَّب، وهَذا مَا نُرَتِّلُهُ في صَلاةِ الخَتَنِ الخُشُوعِيَّةِ في الأُسبوعِ العَظيمِ المُقَدَّس: "إنَّني أُشاهِدُ خِدرَكَ، مُزَيَّنًا يا مُخَلّصي، ولَستُ أمتلِكُ لِباسًا للدُّخُولِ إليهِ، فَأَبهِجْ حُلَّةَ نَفسي، يا مَانِحَ النُّورِ وخَلِّصنِي".

كَذَلِكَ، إنْ بَحثْنَا عن أَسمى حالَةِ عِشقٍ مع الرَّبِّ، لَوَجَدْنا عِشقَ وَالِدَةِ الإلَهِ في الصَّدَارَةِ دُونَ مُنازِع. وهَا شَهرُ آبَ المُخَصَّصُ لِوَالِدَةِ الإلَهِ مُنذُ القِدَم، يُطِلُّ عَلَينا لِنَتَرافَقَ مَعَها كُلَّ مَساءٍ في صَلاةٍ ابتِهالِيَّةٍ ومُعَزِّيَةٍ تُدعى البَراكلِيسي، وذَلِكَ مِن بِدايَةِ شَهرِ آب، إلى قُدَّاسِ عِيدِ رُقادِ وَالِدَةِ الإلَهِ في ١٥ آب. مَعَ العِلمِ أَنَّهُ يُمكِنُ إقامَةُ هَذهِ الصَّلاةِ في أَيّ وَقتٍ، وعِندَما تَدعُو الحَاجَة.

بالعَودَةِ إلى مَا كَتَبَهُ Placide، نَجِدُهُ يَذكُرُ أنَّ جُرأةَ الوَصفِ في نَشيدِ الأَناشِيدِ ليسَت سوى عِشقٍ إلَهِيٍّ للبَشَر مِن جِهَةٍ، ومُبادَلَةِ البَشرِ لِهَذا العِشقِ مِن جِهَةٍ ثَانِية. فَهو يَقولُ إنَّ مَحبَّةَ يَسوعَ لِكَنِيسَتِهِ، ولِوَالِدَةِ الإلَه، الّتي هِيَ صُورَةُ كَنيسَتِهِ، ومَحَبَّتَهُ لَنا، نَحنُ أَعضاءَ كنيسَتِهِ المُقَدَّسَةِ، هِيَ مَحبَّةٌ شَخصِيَّةٌ لِكُلٍّ مِنَّا، كَمَحَبَّةِ عَريسٍ لِحَبيبَتِه. ويُكمِلُ أنَّ كُلَّ مَسيحِيّ مَدعُوٌّ أن يَعيشَ هَذا السِّرَّ الكَنَسيَّ-الزَّوجِيَّ، ويَعرِفَهُ مَعرِفَةً عَميقَة.

هُنا نَقولُ، إنَّ وَالِدَةَ الإلَهِ تَأتي لِتَكونَ المِثالَ الأَسمَى لِكُلِّ ذَلِك. هِيَ الَّتي جَمَعتْ بِشَخصِها الحُبَّ "البَتُوليَّ" والزَّوجِيَّ في آنٍ: حُبَّ العَروسِ لِعَرِيسِها، وحُبَّ الأمِّ لِوَلَدِها، وحُبَّ العاشِقَةِ لِعَشيقِها، وحُبَّ الابنَةِ لِوالِدِها، وحُبَّ المَخلُوقَةِ لِخالِقِها وربِّها ومُخَلِّصِها، وحُبَّ الأختِ لأخيها الّذي تَنازَلَ وتَجَسَّدَ وأَرادَ أن يُساوِيَنا في البَشَرِيَّةِ، وأَصبَحَ أخًا لنا، كما نَقرَأُ في الرِّسالَةِ إلى أَهلِ رُومية: "هُوَ بِكْر بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ"(رو٢٩:٨).

لِنَتوقَّفِ الآنَ قليلًا، في نَشيدِ الأناشيد، عِندَ ما يَقولُهُ المُناجَى للّتي تُناجِيهِ: "أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ، عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ."

أَلا يَنطَبِقُ هذا الكلامُ بِامتِيازٍ على والِدَةِ الإله؟.

فَهِيَ أُختُهُ في البَشَرِيَّةِ وعَروسُهُ السَّماويَّةُ في الوَقتِ نَفسِه.

هِيَ جَنَّةٌ مُمتَلِئَةٌ بِالنِّعمَةِ الإلَهِيَّةِ وَالرُّوحِ القُدُس.

هِيَ حَديقَةٌ مُزهِرَةٌ كما يَقولُ هَذا السِّفرُ: "كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَة"(نشيد الأناشيد ٧:٤).

هِي بُستانٌ مُغلَقٌ، بكُلِّ إرادَتِها واتِّحادِها بِالرَّبِّ، في وَجهِ الخَطيئَة.

هِيَ عَينٌ مُقْفَلَةٌ، أَبوابُها مُوصَدَةٌ أمامَ هَجَماتِ العَدوّ، لأَنَّها جَلَست تَحتَ كَلِمَةِ اللهِ وطَاعَتِهِ بِمِلءِ حُريَّتِها، مُصغِيَةً لَهُ بِالكُليَّةِ، وعَامِلَةً بِوَصايَاهُ بِكُلِّ أَمانَة.

هِيَ عَينٌ لِمياهِ الرَّبِّ العَذبَةِ، كَما قالَ الرَّبُّ: "مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ(يوحنا ١٤:٤).

وهِيَ مَختُومةٌ بِالرُّوحِ القُدُسِ كما قَالَ لَها المَلاكُ في الحَبَلِ الإلَهِيّ: "الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ"(لوقا ٣٥:١).

فالعذراءُ وَسِعتهُ في أَحشَائِها، وأَرضَعَتهُ مِن ثَديِها، وأصبحت بالتالي أمَّ البَشَرِيَّةِ جَمعَاء.

نِهايَةً، يَختُمُ Placide كَلامَهُ بِالتَّأمُّلِ بِقُوَّةِ مَحَبَّةِ المَسيحِ لَنا، مِن خِلالِ مُناشَدَةِ الحَبيبَةِ لِحَبيبِها فِي نِهايَةِ نَشيدِ الأناشيدِ، إذ تَقول: "الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ"(نشيد الأناشيد ٦:٨).

وصلنا هُنا إلى القِمَّة "المَوتُ المُحْيِي": لَقد أَسلَمَ الرَّبُّ ذَاتَه مِن أَجلِ خَلاصِنا، وأَحَبَّنا حَتّى مَوتِ الصَّليب. كَذَلِكَ مَحبَّتُنا لَهُ تمُرُّ في مَوتِنا عَنِ "الأنا القاتِلَة"، إن في الشَّهادَةِ الحَمراء، أي الاستِشهادِ مِن أَجلِ الإنجِيلِ، أو في الشَّهادَةِ البَيضاءِ الّتي هِيَ السِّيرَةُ الطَّاهِرَة.

هذا تَمامًا مَا عَاشَتهُ وَالِدَةُ الإلَهِ، إن في السَّيفِ الّذي جَازَ في قَلبِها، وهوَ صَلبُ ابنِها يَسوع، كما قالَ لَها سِمعانُ الشّيخ[3]، وإن في سِيرَتِها النَّقيَّة.

خُلاصَةً، لَقد أَثبَتَ لَنا عَاشِقُو يَسوعَ، أي القِدّيسُونَ، وفي مُقَدِّمَتِهم وَالِدَةُ الإلَه، مَا قالَتهُ عَاشِقَةُ نشيد الأناشيد عَنِ المَحبَّة: "مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ"(نشيد الأناشيد ٧:٨).

لَقد أَدرَكَتِ العَذراءُ المَحبَّةَ الإلَهِيَّةَ في كُلِّ مَراحِلِ حَياتِها وعَاشتها بِالكُليّة، مِن دُخولِها الهَيكَلِ إلى رُقادِهَا، وكَيفَ نَقَلَها الرَّبُّ إلَيه، كمَا أَدرَكَتْ أنَّ "الله خَتَمَنا وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا"(٢ كورنثوس ٢٢:١)، وعَرَفَت كَيفَ تُفرِحُ الرُّوحَ القُدُسَ، وتَدعُونا أن نَحذُوَ حَذوَها، مُنشِدَةً: "لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ"(أفسس ٣٠:٤).

إلَى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. Moine et théologien orthodoxe français – 1926-2018.

[2]. Les Chemins du cœur, l'enseignement spirituel des Pères de L’Église, Archimandrite Placide DESEILLE, 2012

[3]. "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ" (لوقا ٣٥:٢)