كلما ظنّ اللبنانيون أنّهم وصلوا إلى "القعر"، وجدوا أنّ البلاد تنحدر نحو ما هو "أسوأ"، في أزمة متعدّدة الأوجه لا يبدو أنّ نهايتها "تقترب"، خصوصًا في ظلّ طبقة سياسيّة مصرّة على مواصلة الحكم وفقًا للنهج التقليدي، من دون أيّ اعتبار للمآسي والأزمات التي تفاقمت خلال الأشهر الماضية، وعلى وقع الانهيار التدريجيّ للاقتصاد وكلّ ما يمتّ إليه بصلة.

هكذا، بلغت "طوابير الذلّ" مرحلة متقدّمة في الأيام القليلة الماضية، فهي انتقلت من محطات الوقود والمحروقات، إلى الأفران، حيث اصطفّ اللبنانيون في طوابير طويلة، وهم "ينتظرون" ربطة خبز، بل بعض الأرغفة لا أكثر، وهي التي كانت تعتبر "طعام الفقراء"، قبل أن يدخل البلد واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، بشهادة المنظمات الدولية.

لكن، في مواجهة المشهد "المجنون" في الطرقات، وأمام الأفران، وما انطوت عليه من "فوضى" يُخشى أن تكون لها تداعيات "دراماتيكية"، كان المشهد مغايرًا بالمطلق في مجلس النواب، الذي عقد هذا الأسبوع أولى جلساته التشريعية، جلسة بدا أنّ نتائجها كانت "كارثية" بعدما أظهرت مستوى "الرقيّ" لدى ممثلي الشعب، أمام أعين الدبلوماسيين الأجانب الذين كانوا حاضرين.

وفيما نواب لبنان ملتهون بـ"القشور"، بل بـ"التنمّر" على بعضهم البعض كما أظهرت مجريات الجلسة الشهيرة، وما تبعها من سجالات ونقاشات بدت "خارج السياق"، تتجهّز الأزمات للتفاقم أكثر، مع استحقاقات داهمة منتظرة، تشير المعطيات إلى أنّ الفراغ سيكون "المنتصر" فيها، ما يعيد إلى الواجهة، السؤال الشهير الذي طرحه يومًا أحد الساسة التقليديّين: "إلى أين"؟.

لا شكّ بداية أنّ نواب لبنان، بمختلف انتماءاتهم وميولهم السياسية، "رسبوا" بدرجة "امتياز" مضادة، في "امتحانهم" التشريعي الأول، ليس لأنّ القرارات التي اتخذوها لم تكن بالمستوى المأمول، بل لأنّهم بكلّ بساطة، أثبتوا أنّهم يعيشون "انفصامًا" عن الواقع الذي يعانيه اللبنانيون الذين يفترض، وفق المنطق "الديمقراطي" الذي أوصلهم إلى الندوة البرلمانية، أنّهم يمثّلونهم ويتحدّثون باسمهم، بل إنّ "أولوياتهم" بدت في مكان آخر تمامًا.

ولعلّ اللافت في سياق الحديث عن الجلسة التشريعية، أنّ ما وصل إلى الشعب من مجرياتها، لم يكن فعلاً فحوى القرارات التي اتُخِذت، بقدر اللغة "السوقية" التي تصدّرتها، وأجواء "التنمّر" التي طغت عليها، كتباهي عدد من النواب مثلاً بالسخرية من عائلة زميلة لهم، وتستّر آخرين خلف لهجة "التسلط والذكورية" في التعاطي مع زملائهم وزميلاتهم، وبين هؤلاء وأولئك من أقام الدنيا ولم يقعدها بسبب عبارة وردت قد تُفهَم خلافًا لإرادة مطلقيها.

وبمُعزَلٍ عمّن يتحمّل مسؤولية هذا الجو الذي فرض نفسه على الجلسة التشريعية، التي أصرّ رئيس مجلس النواب منذ انطلاقها على أنّ هناك من لم يكن يريد لها أن تنجح، في ظلّ حديث محسوبين عليه عن تعمّد بعض النواب "افتعال" السجالات منذ دخولهم إلى المجلس، فإنّ الأكيد أنّ الصورة التي نُقِلت إلى الرأي العام لم تكن ملائمة أبدًا، فيما الناس تنتظر منهم لعب دور وطني وجدّي للمضيّ في مشروع "الإنقاذ" الذي بات حبرًا على ورق.

وقد يكون "مشهد" ما بعد الجلسة أكثر "فداحة" من أجواء الجلسة نفسها، حيث وجد اللبنانيون أنفسهم أمام سجالات "دونكيشوتية" حول المعاملة التي حظيت بها النائبة الفلانية، التي إن صحّ ما كشفت عنه، من شأنه أن يشكّل "إدانة مضافة" للقيّمين على مؤسسة مجلس النواب، وحول "التنمّر" الذي تعرّضت له، بسبب اسم عائلتها، والذي لم ينكره المتهمون به على الإطلاق، وإن هربوا بالإشارة إلى أنّها لم تكن "طرفًا" في السجال الأساسيّ الذي وقع.

قد لا تكون المشكلة في هذه السجالات بحدّ ذاتها، مع كل ما تنطوي عليه من إشكاليات "أخلاقية" كبرى، ولكن في كونها تأتي متزامنة مع سلسلة استحقاقات "يهمّشها" ممثلو الشعب، ومع أزمات معيشية تجلّت بوضوح في "المعارك" التي شهدتها "طوابير الذل" التي عادت للانتشار في الأيام الماضية، من دون حسيب أو رقيب، وكأنّ هناك من "أعجب" بسيناريو "الإذلال" الذي يسبق كل عملية "رفع للدعم"، لتتحوّل الأخيرة إلى مطلب جماهيري، بل شعبي.

يحصل كلّ ذلك فيما لا تزال مشاورات تأليف الحكومة الجديدة "مجمّدة"، من دون أن يقدم أيّ من النواب على "مساءلة" رئيس الحكومة المكلف مثلاً حول ذلك، ولو كان "متحرّرًا" بموجب الدستور من أيّ مهل قانونية "مقيّدة"، خصوصًا بعدما اكتفى بعقد لقاءين مع رئيس الجمهورية، من دون أيّ ثالث "ثابت"، يُقال إنّه إذا عقد أساسًا، لن يكون أكثر من "رفع عتب"، في ظلّ اتفاق ضمني على غياب "الجدوى" من تشكيل الحكومة في هذا التوقيت.

أما الاستحقاق المقبل الذي ينتظر "همّة" النواب فهو الانتخابات الرئاسية المفترضة قبل نهاية تشرين الأول المقبل، موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، إلا أنّ المفارقة أنّهم كمن ينتظرون "التعليمات" لاتخاذ قرار كيفية التعامل مع هذا الاستحقاق المفصليّ، في ظل مفارقة أكثر إثارة للانتباه، تكمن في أنّ "الفراغ" يبقى المرشح الأوفر حظًا للفوز في الانتخابات، ليسجّل "رسوبًا" جديدًا للنواب في "دولة القانون والمؤسسات"، كما يحلو للبعض وصفها.

في النهاية، يبقى الثابت أنّ النواب أظهروا مرّة أخرى مستوى "الرقيّ" الذي يتمتّعون به، ليضيفوا أزمة "أخلاقية" إلى سلسلة الأزمات التي يتخبّط خلفها اللبنانيون، والتي ما عاد لدى أحد القدرة والصبر على تحمّلها، من دون أن يعثروا على أيّ "كوة" في الجدار، يمكن أن يتسلّلوا من خلالها للوصول فعليًا إلى مرحلة "الإنقاذ" التي طال انتظارها، أكثر من اللازم...