مرّت سنتان كاملتان على الرابع من آب 2020، ذلك اليوم "المشؤوم" الذي حفر عميقًا في ذاكرة اللبنانيّين، وأضحى "كابوسهم" الثابت الذي يرافقهم في يوميّاتهم ولياليهم، اليوم الذي لا تزال فصوله وتداعياته مستمرّة، على المستوى النفسية، بعدما تسبّب بـ"تروما" لا يبدو أنّ أحدًا استفاق منها، أو سيخرج منها في وقت قريب.

مرّت سنتان كاملتان على ​انفجار مرفأ بيروت​، ولا تزال تلك اللحظة "القاتلة" في أذهان اللبنانيين، هم الذين استعادوا كلّ تفاصيلها القاسية والمؤلمة قبل أيام، حين انهارت أجزاء من صوامع الحبوب في المرفأ، فشعر كثيرون بقوة الانفجار من جديد، ولو أتت "صامتة" هذه المرّة، لتختلق مرّة أخرى المشاعر بالأحاسيس، ومعها الحقائق المرّة.

لكنّ الأمَرّ من كلّ ذلك أنّ شيئًا من العدالة لم يتحقق خلال العامين المنصرمين، رغم أنّ أصوات الأهالي بُحّت وهم يطلبون الرحمة لضحاياهم، فيما المسؤولون في مكانٍ آخر تمامًا، هم المتهمون حتى إثبات العكس، خلافًا لقرينة البراءة المعتادة، بعد تفنّنهم في "تجميد" التحقيق بإحدى أكبر الجرائم "الكونية"، بذريعة "التسييس" التي أفرغت المسار القانوني برمّته من أيّ مضمون.

وإذا كان هناك من يسعى لـ"محو" أيّ أثرٍ للجريمة، أو شاهد عليها، ثمّة علامات استفهام كثيرة لا بدّ أن تُطرَح في الذكرى الأليمة، فأين أصبحت التحقيقات؟ ولماذا تبدو مُهمَلة ومغيَّبة ومهمَّشة إلى هذا الحدّ؟ هل من أملٍ باكتشاف الحقيقة في يومٍ من الأيام، أم أنّ جريمة تفجير المرفأ ستضاف إلى سجل حافل بالجرائم التي يرمى باللائمة فيها على "المجهول"؟!.

بالنسبة إلى المسار القضائي والقانوني قبل الإنساني، فالواضح أنّ التحقيقات في الجريمة "مجمّدة"، منذ "تكبيل" يد المحقّق العدلي ​القاضي طارق البيطار​، بعد عجز المسؤولين عن "إزاحته" كما فعلوا مع سلفه القاضي فادي صوان قبله، رغم الشكاوى ودعاوى الردّ التي قدّموها بحقّه، والتي كانت تُرفَض بمجملها، فإذا بالحلّ السحريّ يكمن في "تعطيل" ​محكمة التمييز​ المعنية، إثر فقدانها للنصاب، بعد إحالة أحد أعضائها للتعاقد.

تتفاوت المواقف حول مسبّبات ودوافع مثل هذا "التعطيل"، فهناك فريق معروف يشكو "تسييس" التحقيقات، ويضع علامات استفهام حول أداء المحقّق العدلي، متهمًا إياه بالسعي نحو "الشعبوية" في العمل، بدليل رفضه إخلاء موقوفين، وتوجيهه اتهامات "سياسية" لآخرين، من دون احترام مبدأ "الحصانة النيابية" المنصوص عليها في ​الدستور​، ولا سيما بعد توجيهه اتهامات رسمية لنائبين من حركة "أمل"، إضافة إلى شخصيات سياسية أخرى.

في المقابل، يؤكد المدافعون عن القاضي البيطار أنّ المسار الذي اتبعه كان يقوم على النزاهة والشفافية منذ اليوم الأول، خصوصًا أنّ القضية التي يواجهها قد تكون الأكثر حساسيّة في تاريخ لبنان الحديث، وأنّ "ذنبه الوحيد" أنّه تجرأ على الذهاب بالقضية حتى النهاية، متجاوزًا ما كانت تُصنَّف "خطوطًا حمراء" في إشارة إلى بعض القوى السياسية والأحزاب التي تعتبر نفسها "فوق الشبهات"، وترفض التعامل معها كسائر المواطنين.

لكن، بين هذا الرأي وذاك، ثمّة بين القانونيين من يعتبر أنّ الطريقة التي اتُبِعت لـ"تكبيل" يد المحقق العدلي لا يمكن أن تكون مقبولة، من الناحية الدستورية قبل الإنسانية، خصوصًا بعدما تمّ اللجوء إلى "تعطيل" محكمة برمّتها من أجل تجميد التحقيق، طالما أنّ كلّ الطرق المُتاحة لإزاحة المحقق لم تُجدِ نفعًا، حتى لو صحّت فرضية أنّ ما يسمّى ​المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء​ هو المخوّل بمثل هذه التحقيقات.

أكثر من ذلك، ثمّة مفارقة تستوقف الكثيرين، وهي أنّ عدد الأيام التي كان فيها التحقيق بالجريمة "نشطًا" على مدى العامين المنصرمين هي أقلّ من عدد الأيام التي كان فيها معطّلاً، وهو ما يفترض أن يشكّل لوحده "إدانة" لسلطة سياسية لا تجد "حَرَجًا" في مثل هذا السلوك، حتى في مواجهة جريمة اهتزّت لها كلّ البشرية، وأدّت إلى تغيير وجه العاصمة بيروت عن بكرة أبيها، حيث لا تزال بعض الأحياء حتى اليوم تنتظر ورشة إعادة الإعمار.

وسط كلّ ذلك، قد يكون من المفيد التوقف لبرهة عند تجارب الضحايا، ومعاناة أهاليهم المريرة، الذين تحوّل يوم الرابع من كلّ شهر موعدًا لهم في الشارع، لرفع صوتهم، والمطالبة بالإنصاف، ليُواجَهوا كما لو أنّهم "مخرّبون أو مفتعلو شغب"، من دون أيّ مراعاة لواقعهم أو وضعهم، وللمأساة التي يمثّلونها، والتي تختصر في الكثير من جوانبها المأساة اللبنانية بكلّ تفاصيلها، التي بدأت منذ ما قبل 4 آب 2020 ولم تنتهِ بعد.

ولعلّ القصص التي تمّ تداولها في اليومين الماضيين على أعتاب الذكرى الثانية كافية للتأكيد على أنّ "جرح" انفجار المرفأ لم يندمل بعد، فبين أهالي الضحايا من لم يعد قادرًا على التحمل، وبين الجرحى من لم يعد يجد الأدوية التي يحتاجها لاستكمال العلاج بفعل الأزمة الاقتصادية، من دون أن ننسى قصة ليليان شعيتو التي تختصر وحدها "التراجيديا اللبنانية" بامتياز، من أزمة المصارف، إلى ظلم المجتمع وسوى ذلك.

لن يُشطَب انفجار المرفأ من ذاكرة اللبنانيين الحيّة، ولو أصرّت السلطة على "تمييع" التحقيقات، وإلغاء أيّ "أثر" يشهد على ما حدث في بيروت، لكن، رغم ذلك، فإنّ العامين المنصرمين يجب أن يشكّلا "رسالة" لجميع اللبنانيين، ولا سيما الذين لا يزالوا مؤمنين بطبقة سياسية احترفت "الإهمال والتضليل"، فالسلطة التي تجعل جريمة بحجم تفجير المرفأ هامشيّة، ولا تراعي عائلات الضحايا الثكلى، لا تستحقّ أي احترام!.