رويدًا رويدًا، يبلور "التيار الوطني الحر" موقفه من الاستحقاق الرئاسي المنتظر، الذي يبدو أنّ "مرشحه الطبيعي" فيه كان ولا يزال رئيسه الوزير السابق جبران باسيل، ولو أوحى الأخير في فترة من الفترات أنّه ليس طامحًا للرئاسة ولا ساعيًا إليها في المرحلة الحاليّة، وفي ضوء تجربة الرئيس ميشال عون الذي "حوصِر ومُنِع" من تحقيق ما يصبو إليه، وفق ما يقول أنصاره.

فعلى الرغم من أنّ باسيل ألمح في إطلالته التلفزيونية الأخيرة إلى أنّه ليس مرشحًا "حتى الآن"، تؤكد كلّ المؤشّرات والمعطيات المتوافرة أنّه "لم يستسلم بعد"، وهو ما يوحي به الحراك الذي يقوده منذ فترة، بدءًا من رفع "الفيتو" في وجه تأييد رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وصولاً إلى دحض حجّة "العقوبات" التي يتذرّع بها البعض لإفراغ "الحلم الرئاسي" من مضمونه.

ولعلّ البيان الأخير للمجلس السياسي في "التيار الوطني الحر" جاء ليضع النقاط على الحروف، حيث فسّره كثيرون على أنّه إطلاق رسميّ لمعركة باسيل الرئاسية، من خلال التركيز على "التمثيل الشعبي" معيارًا أول في الانتخابات الرئاسية، أسوة بغيرها من الاستحقاقات المرتبطة بالمواقع الدستورية، والتشديد على وجوب احترام النتائج التي أفرزتها الانتخابات النيابية.

وإذا كان هذا المعيار الذي أراده ربما "التيار" لضرب حظوظ فرنجية وأيّ مرشح آخر لا يمتلك حيثية نيابية، ينطبق على رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، تمامًا كما ينطبق على باسيل، فإنّ المقرّبين من الأخير تولّوا "التصويب" على "الحكيم"، وصولاً إلى حدّ السخرية من اعتبار نفسه مرشحًا "طبيعيًا"، ليخلصوا صراحة إلى أن باسيل هو "الأحقّ" بالرئاسة.

فإلى أين يتّجه الاستحقاق الرئاسي في ضوء الاستقطاب العاموديّ الذي عاد للظهور؟ كيف ينظر "التيار الوطني الحر" إلى المعركة المنتظرة؟ وهل يتأهّب لرفع شعار "باسيل أو لا أحد"، ولو أدّى إلى "استنساخ" سيناريو الانتخابات السابقة؟ وهل يمكن لخصوم "التيار" أصلاً أن يقبلوا بـ"تسوية رئاسية" جديدة تفضي إلى منح باسيل لقب "الفخامة"؟!.

بالنسبة إلى المقربين من "التيار الوطني الحر"، فإنّ الحديث "الجدّي" بالأسماء المرشحة للرئاسة لم يَحِن بعد، كما أنّ رئيس "التيار" ليس حتى اللحظة "مرشحًا" للرئاسة، حتى يصحّ الحديث عن معادلات من قبيل "باسيل أو لا أحد"، علمًا أنّ اعتباره مرشحًا "طبيعيًا" هو أمر بديهيّ، بالنظر إلى الحيثية السياسية التي يملكها، والخبرة التي راكمها على مدى السنوات، فضلاً عن الحيثية الشعبية التي أثبتتها الانتخابات النيابية الأخيرة.

يشير هؤلاء إلى أنّ ما يرفضه باسيل هو محاولة "فرض" مرشحين معيّنين، بل منحهم صفة "الأوفر حظًا"، من دون أن يكون لهم الوزن النيابي أو الشعبي المطلوب، بل من دون المرور من خلال الممثلين الحقيقيين للمسيحيين، وهو انطلاقًا من ذلك يطالب جميع الفرقاء، من الحلفاء والخصوم، بضرورة التعامل مع الاستحقاق الرئاسي كغيره، وبالتالي "احترام" مبدأ التمثيل الشعبي، بمعنى وصول "الأقوى" إلى المنصب "الأعلى".

لا ينكر المحسوبون على "التيار" أنّ مبدأ "التمثيل الشعبي" ينطبق على رئيس حزب "القوات اللبنانية"، فبمعزَلٍ عن حلول في المرتبة الثانية لا الأولى، وفق ما يقول هؤلاء، يبقى الأكيد أنه يتمتع بحدّ أدنى من الحيثية الشعبية، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ الهجوم عليه من قبل بعض "العونيّين" جاء في معرض "الدفاع"، بعدما كان جعجع هو البادئ في الهجوم حين وصف باسيل بـ"أفسد الفاسدين"، وقال إنّ المطلوب وصول رئيس "يعالج المشكلة".

وفيما يذكّر "العونيّون" بأنّ باسيل كان قد وجّه رسالة "إيجابية" لجعجع في إطلالته التلفزيونية الأخيرة حين أبدى "انفتاحًا" على الاتفاق معه على اسم معيّن للرئاسة، يشيرون إلى أنّ جعجع نفسه يدرك أنّ "لا حظوظ" لديه، فاسمه مرفوض من قبل قوى سياسية واسعة تشهر "الفيتو" في وجهه، علمًا أنّ قوى المعارضة نفسها لا يمكن أن تتوافق على اسمه، وفي صفوفها من يرفض حتى فكرة "التوافق" معه على اسم معيّن، مهما كان الثمن.

وبالمنطق نفسه، يردّ خصوم "التيار" عليه، ليقولوا إنّه إذا كانت حظوظ جعجع ضعيفة، وهي قد تكون فعلاً كذلك، للكثير من الأسباب والاعتبارات، فإنّ حظوظ باسيل نفسه ليست أفضل، إن لم يكن بسبب العقوبات الأميركية، التي يحاول التقليل من شأنها، فبسبب تراكم سياساته الذي جعله بلا حلفاء بالمُطلَق، حتى إنّ هناك من يقول إنّ "حزب الله" نفسه لن يكون متحمّسًا للتصويت له، وهو يفضّل فرنجية عليه، أو حتى الخيار "الوسطي".

ويستغرب خصوم "التيار" المقاربة التي يستند إليها باسيل في الاستحقاق الرئاسي، فكيف يرفض فكرة المرشح "التوافقي" أو "الوسطي"، مشترطًا الإتيان بـ"الأقوى والأكثر تمثيلاً"، أسوة بما حصل في المواقع الدستورية الأخرى، في حين لم يكن موقفه في هذه الاستحقاقات مساندًا فعليًا للأقوى، فلا هو انتخب نبيه بري رئيسًا للمجلس، رغم احتكار "الثنائي الشيعي" الذي رشحه لكل مقاعد الطائفة، ولا سمّى نجيب ميقاتي أو سعد الحريري قبله لرئاسة الحكومة.

عمومًا، يعتقد خصوم "التيار" أنّ ما يفعله باسيل اليوم ليس سوى "رفع السقف" من أجل فرض شروطه، وتنصيب نفسه ربما "ناخبًا أول"، بحيث يكون فعلاً "ممرًا إلزاميًا" للانتخابات الرئاسية، مشيرين إلى أنّه من المستبعد أن يكون ساعيًا فعلاً لـ"خلافة" الرئيس ميشال عون، ولو كانت هذه "رغبة" الأخير التي ألمح إليها في خطاب عيد الجيش، علمًا أنّ وصوله إلى بعبدا صعب، حتى لو كرّر سيناريو 2016 نفسه، الذي سيكون ثمنه "باهظًا" هذه المرّة.

في النتيجة، يمكن القول إنّ انتخابات الرئاسة لم تنطلق رسميًا بعد، وكلّ ما يجري اليوم ليس سوى جزء من سياسة "التسخين والتحمية" الممهّدة للاستحقاق، ومحاولة لرفع الأسقف بانتظار "تسوية" ما، يخشى كثيرون ألا يبدأ الحديث الجدّي بشأنها سوى بعد وقوع "الفراغ"، الذي لا يزال معظم الأفرقاء السياسيين يتعاملون معه على أنّه "حتميّ"، باعتبار أنّ "المفاوضات" الحقيقة مؤجّلة لما بعده!.