مرّ الأول من آب، الذي يمثّل كرامة كلّ مواطن، وأتى الرابع منه ليجسّد إذلالًا لشعب، تآمر عليه القريب والغريب، أدّى إلى تقهقر شريحة كبيرة من الناس المغبونين، الذين سقط منهم الشهداء والجرحى، وهُدّمت بيوتهم وشُرّدوا، ولم نعرف لتاريخه المسؤول عن جريمة العصر. والقضاء لم يستطع أن يصدر قرارًا ظنّيًا، يدين فيه الفاعلين الحقيقيين، الذين لن يهربوا من عدالة السماء، مهما حماهم زعماء الأرض.

بين الأول والرابع من آب تآخٍ ووحدة دم، لجيش صامد وصابر بسبب وحدته، وشعب يحاولون هزيمته بسبب الفساد السياسي وجشع التجّار الذي نعيشه منذ بدايات التسعينات. الكلّ مسؤول دون استثناء، ولو كان بنسب متفاوتة، لأننا نعيش في ظلّ نظام متعثّر يحتمي فيه الفاسدون بعباءات وزعماء الطوائف.

هذا الجحيم الذي يخيّم علينا، سينزل دينونة من الله، على كلّ مَن لطّخ يده بدماء الأبرياء وتجّويع الناس، وهم كثر في هذا البلد. عدالة السماء لن ترحم كلَّ شخصٍ قتل وشرّد وهجّر وسرق ونهب أموال الناس وودائعهم، وستطال، بطبيعة الحال، كلّ مَن يحمي الفاسدين، دون استثناء، وعلى كافة الصعد والمستويات.

أقول هذا وفي القلب غصّة وفي العين دمعة، على شهداء الرابع من آب وعلى أهاليهم، والشهداء الأحياء من بينهم. سنتان مرّت وما زلنا ندور في نفس الفلك، تجاذبات سياسيّة وقضائيّة وأمنيّة، وكأني أمام سيناريو هدفه تجهيل الفاعل، ربما لما يمكن أن يظهره التحقيق من مفاجآت تتخطى حدود الوطن.

وبالمحصّلة، هناك أشخاص يدفعون ثمن ما اقترفه غيرهم من رذائل، وكثيرون من شعبنا، لم يستطيعوا لتاريخه أن يعيدوا بناء أو ترميم بيوتهم أو مؤسساتهم، وتضميد جراحهم الجسدية والنفسية.

على الرغم من هذه المأساة الأليمة، يحضر أمامي كنموذج لعدم الإستسلام، مستشفى القدّيس جاورجيوس الجامعي (مستشفى الروم)، الذي يشهد من شهر آب ٢٠٢٠ أكبر ورشة ترميم، جرّاء ما حلّ به من خراب، دون أن ننسى دماء الممرضات والمرضى التي سقطت جرّاء هذا الإنفجار الهائل. ومع هذا، لم يتوقّف عن استقبال المرضى، متخطيًّا كلّ الصعاب، بنعمة الرّب وشفاعة القدّيس جاورجيوس.

اذا أضأنا على الخراب والموت الذي حصل بسبب إنفجار ٤ آب وتداعياتهما الماديّة والنفسيّة والمعنويّة، فحدّث ولا حرج. إلا أن صورة بيضاء ما زالت تنتصب أمام عيون اللبنانيين والعالم، على فظاعة المشهد آنذاك، تلك النخوة التي حملت شباب وشابات من كلّ المناطق اللبنانيّة والإتجاهات، ومن كافة المذاهب والطوائف، الذين "شمّروا" عن سواعدهم وهبّوا لنصرة أهلهم وأبناء وطنهم، الذين حلّت بهم الفاجعة والنكبة.

نعم، وعلى الرغم من قساوة المشهد، يبدو أننا شعبٌ لا يعرف الإنهزام ولا الإحباط. شبابنا تخطّى يومها الحواجز المصنوعة بأيدي السياسيين، وتحدّوا وباء كورونا، وسلّموا أمرهم لله، لكي يؤهّلهم لمعاضدة المنكوبين والمحزونين والمشرّدين، وكان الله معهم وأعانهم، على الرغم من كل المعوقات. وإن ننسى لا ننسى المغتربين الذين هبّوا لنصرة أهلهم بشتّى الوسائل، سواء معنويًا أو ماديًا، عبر أفراد أو جمعيات، والتي ليست بكاملها مسيّسة أم مشبوهة، وعليه مهما تآمر علينا الغريب والقريب، سنبقى طلّاب الحياة، ولا نستسلم لسياسة الموت.

أمام هول فاجعة ٤ أب، أشرقت أنوار كثيرة، ترجمها شبيبة هذا البلد المحبّون للخدمة المجّانية، وبالتالي عاشوا ما قاله السيد المسيح: "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ".(متى 20: 28).

أن تأتي عدالة ٤ آب متأخرة، أفضل من ألاّ تأتي نهائيًا، وعلى هذا الرجاء نرفع الدعاء، سائلين الله أن يرحم مَن سقط من ضحايا أبرياء، وللمعذّبين نفسًا وجسدًا نطلب الشفاء.

نسأل التعزية للقلوب الحزينة، وتذكروا قول الرسول بولس: "فَإِنَّهُ قَدْ أُعْلِنَ غَضَبُ اللهِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ عِصْيَانٍ وَإِثْم الَّذِينَ يَحْجُبُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ"(رومية 1 :18).