عيد رقاد العذراء مريم، مرتبطٌ في ذاكرتي بوالدتي التي تحمل شفاعتها، وقد رقدت بالرّب منذ سنتين ونيّف. تعود بي الأيام إلى زمن الطفولة، حين كانت تجّمعنا، نحن أولادها الست مع أقاربنا المحيطين بمنزلنا في الشويفات، لنصلّي معَا صلاة البراكليسي (إبتهال وتضرّع للعذراء مريم)، ولا سيما في صيف العام ١٩٧٥، إذ كانت الأوضاع لا تسمح بالذهاب إلى الكنائس.

اعتدت منذ صغري على تلاوة هذه الصلاة كلّ يوم جمعة على مدار السنة، لكن، مع الوقت والنضج، بتّ اتمعّن بمضمونها المليء بالمعاني العميقة. يُضاف إلى ذلك ما تحمله هذه الصلاة من سلام وهدوء وخشوع في طيّاتها، فالمرء يشعر بالأمان أنه يُقدم العبادة لله مع مريم العذراء، وتلك التي قال عنها كتاب المسلمين: "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ"(سورة آل عمران، آية: ٤٢).

فهمت معنى أمومة العذراء لنا من خلال أمّي، التي كانت الملجأ الأمين في وقت المرض، وأثناء القصف والخوف. كنت ألتجئ إليها، لتتوسط لي عند والدي منعًا لأيّ قصاص قد أستحقّه عند افتعالي للأغلاط.

في مرحلة الطفولة، كانت أمّي ذاك الشخص الذي إذا جعت أطعمتني، وإذا عطشت سقتني، وفي آلامي تغمرني وبعطفها وحنانها تشملني. في مرضي بكلماتها الطيّبة تداويني. هذا الوضع الطبيعي لكلّ طفل مع والدته. إنطلاقًا من أمّي باتت لي العذراء أمّي الثانية، هكذا ببساطة فهمت موقع مريم العذراء في إيماننا ومعتقداتنا. مريم نبع الحنان، كما نرتّل في البراكليسي.

تمتّعت العذراء بالعديد من الصفات التي جعلتها ممتلئة نعمة، فامتازت بالطاعة، وقبلت بشارة الملاك بأن تحوي في حشاها من لا يُحوى. "ها أنا أمَةُ الرّبّ فليكُنْ لي بحسب قولك"(لو ١: ٣٨)، فلقد تجمّلت بالفضائل الكثيرة التي أهّلتها لذلك.

عاشت الأمانة طوال أيام حياتها وأثناء خدمتها. عرفت الأمانة للشريعة بحب، ولذلك عاشت حياة التسليم بالكلّيّة لإرادة الله. ونجد ذلك واضحًا أثناء بشارة الملاك لها، حيث أنها ردّت قائلة: "لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" (لوقا ١: ٣٨)، دون أن تنظر إلى المتاعبِ والمشقّات التي من الممكن أن تتعرض لها، من شكّ يوسف، أو نظرة الناس لها، ولكنها سلّمت إلى مشيئة الله وخضعت لاختياره لها.

لم تعِش السيّدة العذراء يومًا طالبة كرامة أو نعمة في عيون الآخرين، ولكنّها كانت ناكرة ذاتها منذ أن كانت طفلة وهي تخدم في الهيكل، وهي التي علّمتنا في عرس قانا الجليل أنْ: "مهما قال لكم فافعلوه"(يوحنّا ٢: ٥).

عاشت مريم منذ طفوليّتها حياة الخدمة، وهذه أيضًا من صفاتها.

كانت تخدم الآخرين بمحبة وتواضع، فذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى (لوقا 1: 39-45)، مع أنها كانت هي نفسها تحمل يسوع المسيح. لم تمنعها كرامتها من أن تذهب إليها في رحلة مضنية شاقة عبر الجبال، وتمكث عندها نحو ثلاثة أشهر، تخدمها حتى ولدت، وهكذا استمرّت طوال حياتها تخدم الجميع دون كلل أو تعب. روح الخدمة التي تمتّعت بها مريم، ناتجة عن روح التواضع التي اتّصفت بها أيضًا. هذه الصفة تحديدًا جعلتها مختارة من الله. صفة الإتضاع تاج على رأسها، رافقها حتى نهاية حياتها على الأرض وانتقالها إلى السماء.

صفات جميلة عاشتها العذراء مريم في حياتها. ومع هذا نُذكّر أنّنا نحن نكرّم العذراء مريم ولا نعبدها، فالعبادة لا تليق إلا بالله.

من هنا لا يمكنني أن أتخلّى عن تكريمها، ملتجئًا إليها، في الشدائد والضيقات والأحزان. كيف لعاقل أن ينسى تضحيات أمّه التي ولدته على الأرض، والتضحيات الكثيرة التي تعيشها كلّ أمّ، فكم بالأحرى مريم العذراء التي أنجبت لنا كلمة الله.

اذا تخلّى عاقلٌ عن تكريم امّه، التي ولدته على هذه الأرض. فليتخلَّ عندها عن تكريم مريم العذراء، وقد ورد في إنجيل لوقا "لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى تواضع أَمَتِهِ. فها مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جمِيعُ الأَجيَال"(لو 1: 48).

فلنغرف من فضائلها هذه الصفات، ولنسكبها علينا، فنكون مريميّين بكلّ ما للكلمة من معنى.