على بعد أسبوعين من بدء "المهلة الدستورية" لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لا تزال صورة الاستحقاق الرئاسي المنتظر "مبهَمة وضبابية"، رغم كثرة التداول بمواصفات وشروط من هنا وهناك، إضافة إلى أسماء مرشحين محتملين، وآخرين يصنّفون أنفسهم "طبيعيّين"، ولو أنّ حظوظهم تبدو منخفضة، بل في بعض الأحيان "منعدمة".

وفي وقت لا تزال مواقف معظم الأفرقاء من المعركة "غامضة"، مع التزام هؤلاء الصمت، واعتبار بعضهم أنّ الوقت لا يزال "مبكرًا" لحسم الأمور، لفتت الانتباه خلال عطلة نهاية الأسبوع الزيارة التي أجراها رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل إلى الديمان، حيث التقى البطريرك الماروني بشارة الراعي، ودعاه إلى إطلاق "مبادرة".

وعلى الرغم من "التباعد الواضح" في الموقف بين باسيل والراعي، لجهة "المواصفات" المطلوبة في الرئيس العتيد، الذي سبق أن دعا الراعي أن يكون "متجرّدًا"، فيما يصرّ باسيل على أن يكون لديه "تمثيل شعبي"، يبدو أن باسيل يسعى للحصول على "غطاء" الكنيسة الماروني في "معركته" الرئاسية، سواء شارك فيها بصفة مرشح جدي أو ناخب أول.

مع ذلك، ثمّة العديد من علامات الاستفهام التي يطرحها "حراك" باسيل المستجدّ في لحظة سياسية، يرى كثيرون أنها "مقصودة"، فأيّ مبادرة ينتظر باسيل أن يطلقها الراعي، بل يؤكد أنّه سيتجاوب معها؟ ما الأهداف الحقيقية التي ينشدها من مثل هذه المبادرة؟ وما هي الرسائل التي يسعى لتوجيهها للحلفاء قبل الخصوم، والأقربين قبل الأبعدين؟.

يقول العارفون إنّ باسيل "غير راضٍ" عن المسار الذي يسلكه الاستحقاق الرئاسي، حتى الآن على الأقلّ، سواء لجهة أسماء المرشحين "الجديين" أو "الأوفر حظًا" التي يتمّ تداولها في الأوساط الصحافية ولا السياسية، أو لجهة الانطباع الذي بدأ يتولّد لديه عن وجود رغبة مبطنة لدى بعض الأفرقاء لـ"تجاوزه"، والقفز فوق الشروط التي أعلنها بوضوح في أكثر من مناسبة، وأهمّها أن يكون وراء الرئيس العتيد كتلة نيابية ووزارية قادرة على دعمه ومساندته.

وفي هذا السياق، يرى المتابعون أنّ الاستمرار بتداول اسم رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية كأحد المرشحين "الأقوى" لـ"خلافة" الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا من أكثر الأمور التي "تغيظ" باسيل، خصوصًا بعدما صرّح بشكل واضح لا يحتمل اللبس أنّه لا يرى "مبرّرًا" لدعمه، واعتبار أنّ شروط "الرئيس القوي" لا تنطبق عليه، بعدما تراجع تمثيله النيابي، حتى إنه لم يستطع إيصال أكثر من نائب واحد في منطقة نفوذه وقوته، زغرتا.

ومع أنّ باسيل لم يُبدِ "انزعاجًا" من التقارب المستجدّ بين "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب الله"، وفق ما يؤكد المقرّبون منه، بل إنّه بدا "مرتاحًا" له، لما ينطوي عليه من "ضربة" لمشروع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورهاناته على النائب السابق وليد جنبلاط لمواجهة "الحزب"، فإنّ مناخ "التسويات" لا يريح باسيل، وفق ما يقول العارفون، وهو الرافض للعودة لزمن المرشحين "الرماديين"، أو الذين يهبطون إلى بعبدا بموجب "تسويات خارجية".

وبين هذا وذاك، لا يخفي المراقبون رغبة "مضمرة" لدى باسيل في إيصال رسائله إلى "حزب الله" تحديدًا، إذ إنّ "صمت" الأخير رغم بدء العدّ العكسي للاستحقاق لا يبدو "مبشّرًا" بالنسبة إليه، ولو أنّه لم يعلن "تأييده" لفرنجية كما كان متوقعًا، إلا أنه لم يعلن النقيض أيضًا، كما أنّ ما تسرّب من لقاء جنبلاط ووفد "حزب الله" لم يكن مساعدًا، خصوصًا لجهة "الانفتاح" على مرشح "مشترك" من خارج الاصطفافات التقليدية، وهو ما يتناغم مع بعض المعلومات الصحافية.

انطلاقًا من هذه المعطيات، تُفهَم زيارة باسيل إلى الديمان، ومحاولته "استمالة" البطريرك الراعي، رغم الاختلاف في المواقف، الذي وصل حدّ الهجوم على البطريرك من الكثير من مؤيدي "التيار" على مواقع التواصل، علمًا أنّ هناك من يشير إلى أنّ هدف باسيل هو دفع الراعي إلى "استنساخ" تجربة الاستحقاق الرئاسي السابق، من خلال وضع "قائمة" مرشحين تتوافر فيهم الشروط، ويكونون "الممرّ الإلزامي" للانتخابات المنتظرة.

يعود هؤلاء بالذاكرة إلى اللقاء "الرباعي" الذي رعاه البطريرك الراعي قبيل استحقاق 2014 الذي لم يكتمل سوى عام 2016، والذي جمع فيه كلاً من الرئيس ميشال عون، ورئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ورئيس حزب "القوات" سمير جعجع، والرئيس السابق أمين الجميل، وشكّل "مرجعية" لم يكن من الممكن "تجاوزها" في الاستحقاق الرئاسي، خصوصًا بعدما تسلح هؤلاء بـ"عباءة" بكركي بالدرجة الأساسيّة.

وإذا كان باسيل يريد "تكرار" التجربة اليوم، فإنّه يطمح من خلال ذلك إلى "تكريس" شروطه، وبالتالي "قطع" الطريق على "مرشحي الصدفة"، كما يصفهم "العونيون"، فضلاً عن فرنجية الذي يرى أنّه لم يعد يلبّي "شروط التمثيل الشعبي"، علمًا أنّ المواصفات التي ينشدها تدفع نحو الاعتقاد أنه يريد بقائمة "مصغّرة" لا تضمّ سواه ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وربما رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل في حال أراد توسيعها.

لعلّ باسيل يسعى لذلك، لاعتقاده بأنه يملك "الأفضلية" على كل من جعجع والجميل، ولا سيما أنّ هناك "فيتو" واضحًا من "حزب الله" عليهما وخصوصًا جعجع، لكن ثمّة من يقول إنّ باسيل لا يسعى بالضرورة لتكريس نفسه "رئيسًا" بموجب مثل هذه المبادرة، طالما أنّ حظوظه غير مرتفعة، ولكن بالحد الأدنى، أن يكون "القرار" بيده، بعيدًا عن التلطّي خلف أكثريات وأقليات، خلافًا لما فعله بنفسه في استحقاقات أخرى، كما في رئاستي البرلمان والحكومة.

في النتيجة، يبدو أنّ باسيل خطا الخطوة الأولى في مساره الرئاسيّ، من دون أن تكون الأخيرة على الأرجح، إذ إنّ تركيزه قد يكون منصبًّا اليوم على "قطع الطريق" على بعض المرشحين، على أن يؤجَّل البحث الجدي بالأسماء إلى وقت لاحق، إلا أنّ الخوف، كل الخوف، بالنسبة إلى المتابعين، أن يكون باسيل بتصرّفه هذا لا يؤسّس سوى لـ"فخامة الفراغ" الذي تشير كل المعطيات إلى أنه "المرشح الأوفر حظًا" لخلافة عون في بعبدا، ولو جاهر الجميع بالعكس!.