مَا يَلفِتُ النَّظرَ في سِيرَةِ صَموئيلَ النَّبيّ، والّذي نُقيمُ تَذكارَهُ يَومَ العشرين مِن شَهرِ آبَ، مِن كُلِّ عامٍ (اليَوم)، مُنادَاةُ الرَّبِّ لَهُ أَربَعَ مَرَّات[1].

في المَرَّاتِ الثَّلاث الأُولى، لَم يَعرِفْ صَموئيلُ أنَّ الرَّبَّ كان يُناديهِ بِاسمِه، فَكانَ يَهُبُّ عِندَ الكاهِنِ "عَالِي"، ظَانًّا أنَّهُ المُنادِي، وكانَ الكاهِنُ يُجيبُهُ: "لَمْ أَدْعُ يَا ابْنِي. إرْجِعِ اضْطَجعْ".

إلّا أَن فَطِنَ "عَالِي"، في المَرَّةِ الثَّالِثَةِ أنَّ اللهَ هُوَ المُنادِي، عِندَها قَالَ لِصَمُوئيل: "إذْهَبِ اضْطَجعْ، وَيَكُونُ إِذَا دَعَاكَ تَقُولُ: تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ". وهَكَذا كان في المَرَّة الرابعة، وأخبَرَهُ اللهُ أنَّهُ سيأتَمِنَهُ نبيًّا له، وسينتَهي عَهدُ "عَالِي" لأن وَلدَيه كانا فاسِدان، ولَم يَستَطِع "عَالِي" رَدعهُما.

حَدَثَ كُلُّ ذَلِكَ في هَيْكَلِ الرَّبِّ في "شيلوه"، الَّذِي كان فِيهِ تَابُوتُ اللهِ، حَيثُ كانَ صَمُوئيلُ يَخدِمُ، إذ وَضَعَتْهُ أُمُّه هُناكَ مُنذُ طُفولَتِهِ، تَحقِيقًا لِنَذرِها بِأنَّها إذا أَنجَبَتْ صَبِيًّا تُقَدِّمُهُ لله.

نَتَوَقَّفُ هُنا عِندَ نُقطَتَين:

الأُولى، مُنادَاةُ اللهِ لِصَمُوئيلَ في سُكُونِ اللّيل. السُّكونُ هُوَ لُغَةُ الدَّهرِ الآتِي، كَما يَقُولُ القِدّيسُ اسحَقُ السُّريانيّ (ق٧)، وَاللَّيلُ مَلاذُ المُصَلّي، كَمَا يَذكُرُ المَزمُورُ: "ذَكَرْتُ فِي اللَّيْلِ اسْمَكَ يَا رَبُّ" (مز ١١٩: ٥٥).

فِعلًا، مَنِ اختَبَرَ الصَّلاةَ فِي اللَّيلِ أَدرَكَ أن لا ضَجِيجَ فيهِ، بَل رَاحَةٌ وسَكِينَة، ولا سَوادَ فِيهِ ولا ظَلام، بَل نُورٌ وضِياءٌ.

الضَّجيجُ الوَحيدُ في الليلِ هُوَ صَوتُ أوراقِ كُتبِ الصَّلاةِ، وصَوتُ المِبخَرَةِ الَّتي يَصعَدُ مِنها البَخُورُ إلى رَبِّنا مَعَ الصَّلواتِ والتَّرانيمِ والتَّسابيح، وصَوتُ ضَربِ السَّجداتِ المُترافِقَةِ مَعَ التّوبَةِ والتِماسِ الرَّحمَةِ الإلَهِيَّة. هذه الأَصواتُ لَيست ضَجيجًا، بل أَنغَامٌ نَابِعَةٌ مِن أَعماقِ القَلبِ تُناجِي مَعشُوقَها.

أمَّا الضَّجيجُ الحَقِيقيُّ فَهوَ الصَّادِرُ مِن بَوّابَاتِ سُجونِ جَهنَّمَ، الّتي تُحكِمُ الإغلاقَ على مَساجِينِها الّذينَ لَم يَتُوبُوا ويُغَيِّروا مَسلكَهم، وهُم الآنَ يَصرُخُونَ ألَمًا، بينَما سَجَّانوهُم، مَلائِكَةُ إبلِيسَ، يَقومونَ بالـ "تَعداد"، أَي التأكُّدُ مِن جميعِ الحُضور. (مَشهَدِيَّةٌ استَوحَيتُها مِن فِيلم Prison Break). إرحَمنا يا رَبُّ فلا نَكونُ هُناك.

النُّقطةُ الثَّانيةُ، "الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ" (مزمور ٢١:٣٤)، هذا تَمامًا ما حَدَثَ مع "عَالِي" الذي ما أن سَمِعَ خبرَ مَوتِ وَلَدَيهِ في الحَربِ، حتّى سَقَطَ عن كُرسِيّهِ إلى الوَراءِ، وانكَسَرَ عُنُقُه، ومَاتَ على الفَور. وهي عِبرَةٌ لِمَنِ اعتَبَر. بِالمُقابِلِ، صَارَ صَموئيلُ نَبيًّا مُقتَدِرًا عِندَ الله.

نَستَخلِصُ مِن سِيرَةِ صَموئيلَ النَّبيّ التَّالي:

إستِقامَةُ الحَياةِ وَالتَّصرُّفُ الصَّادِقُ، وَالسَّعيُ الدَّؤوبُ لاكتِسابِ سُكونِ النَّفسِ، والابتِعادِ عَن ضَجيجِ الخَطيئَةِ ومُغرَياتِها. وإن حَصَلَ أَن أخطأنا بِسَبَبِ ضَعفِنا، فَالتَّوبَةُ كَفيلَةٌ لإرجَاعِنا إلى سُكُونِ العَليّ، وإلّا فَمَصيرُنا الجَحيم.

الرَّبُّ يُريدُ خَلاصَنا وانتِشالَنا مِن ضَجِيجِ الخَطايا وقَرقَعَتِها، ومَكائِدِ إبليس وَسَطوَتِه، تَمامًا كمَا حَدَثَ مَعَ مَمسُوسِ كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ، الّذي بَعدَ أن شَفاهُ يَسوعُ جَلَسَ عِنْدَ قَدَمَيْ المُخلِّص[2]، في سَكينةٍ وهُدوء.

لِلأسَفِ، نَعيشُ اليَومَ في عَالَمٍ مَلِيءٍ بِالضَّجيجِ، وهُناكَ ما يُعرَفُ بـ "التَّلوُّثِ الصَّوتيّ Pollution sonore".

في تَقريرٍ صَادِرٍ عَنِ الأُمَمِ المُتَّحدةِ بِتاريخِ ١٧ شباط ٢٠٢٢، بِعُنوانِ "التَّلوُّثُ الصَّوتيُّ خَطَرٌ على البَشَرِ وَالحَيوان"، نَقرأُ عن مَدَى الأَذى الّذي يُسبِّبُهُ هَذا التَّلوُّثُ على صِحَّتِنا الجَسَدِيَّةِ وَالنَّفسيَّة.

الضَّجيجُ يُحِيطُ بِنا مِن كُلِّ الجِهاتِ، خَارِجَ مَنازِلِنا وداخِلَها، ويَزدَادُ كُلَّ يَوم، بِخَاصَّةٍ أن مُعظَمَنا يَعيشُ في شُقَقٍ دَاخِلَ أَبنيَةٍ مُكتَظَّة.

يُكمِلُ التَّقريرُ شارِحًا أَنَّ الضَّجيجَ يُوَلِّدُ أَرَقًا وصُدَاعًا، وارتِفاعًا في الضَّغطِ، وأَمراضَ القَلبِ والسُكّري، وأَمراضًا عَصَبيَّةً، وتَلفًا في السَّمَعِ وهذا غيرُ قابِلٍ للعِلاج. كَما يُؤَدِّي إلى وَفَيَاتٍ مُبكِرَةٍ بِنِسَبٍ مُرتَفِعَة. فقد احتَلَّ التَّلوُّثُ الصَّوتيُّ المَرتَبَةَ الثَّانِيةَ كَعامِلٍ مُؤذٍ للإنسَانِ، بَعدَ التَّلوُّثِ البِيئيّ في أُوروبا، وذَلِكَ بِحَسَبِ المُنَظَّمَةِ العالَمِيَّةِ للصِّحة.

هَذا كُلُّه يُصيبُ النَّاسَ مِن كُلِّ الأعمارِ دُونَ أيّ استِثناء.

مِنَ الحُلولِ الّتي طُرِحَت في التَّقريرِ، تَشجيرُ المُدُنِ والسُّطوحِ، لأنَّ الأَشجارَ تُساعِدُ على امتِصاصِ الضَّجيجِ وبَعثَرَتِه.

كَذلِكَ يَنصَحُ الأَطبَّاءٌ بِالسَّعي إلى تَأمينِ الهُدوءِ لِنُفوسِنا قَدرَ الإمكَانِ دَاخِلَ مَنازِلِنا، بِخَاصَّةٍ بَعدَ العَودَةِ مِنَ العَمَلِ، وقَبلَ النَّومِ، كَتَجنُّبِ التَّكَلُّمِ بِصَوتٍ مُرتَفِع، وخَفضِ صَوتِ رَنينِ الخَلَوي، وأصواتِ الفِيديوهَاتِ على الهَواتِفِ، والرَّسائِلِ الصَّوتِيَّةِ والتّلفازِ...، بِالإضَافَةِ إلى تَمارينَ مُعَيَّنةٍ تُساعِدُ على الاستِرخَاءِ والتَّنَفُّسِ العَمِيق.

المَسيحِيَّةُ لَيسَت بَعيدَةً إطلاقًا عَن هَذا الأَمرِ، بَل هِيَ السبَّاقَةُ فيهِ، لأنَّها تَعي أنَّ هذا التَّلوُّثَ لا يَجلِبُ لنا أَمراضًا جَسَدِيَّةً ونَفسِيَّةً فَحَسب، بَل يُدخِلُنا في حَالِ اضطِرابٍ دائِمٍ وتَوَتُّر، ويُضعِفُ عِندَنا قُدرَةَ التَّركيزِ والاحتِمالِ والصَّبر. وأَكثَرُ مِن ذَلِكَ، وهُنا النُّقطَةُ الأَهَم، يَجعَلُنا غُربَاءَ عن ذَواتِنا، وعَن اكتِشافِ مَلكُوتِ اللهِ فينا.

مِن هُنا يُوجَدُ في كَنيستِنا مَا يُعرَفُ بـ"الهُدُوئِيَّة Hésychasme"، مِنَ الكَلِمَةِ اليُونَانِيَّةِ التي تَعنِي السُّكون. الهُدُوئِيَّةُ هَدَفُها الاتِّحادُ بِاللهِ والتَّألُّه، مِن خِلالِ نُورِهِ غَيرِ المَخلُوقِ المُنحَدِرِ مِن لَدُنِهِ عَلَينا.

الهُدُوئِيَّةُ لَيسَت مُخَصَّصَةً للرُّهبانِ والرَّاهِباتِ فَقَط، بَل هِيَ للجَميع. وتَقُومُ على مُمَارَسَةِ مَا يُعرَفُ بـ"الصَّلاة القَلبِيّة" المُتَرَافِقَةِ مَعَ المَسبَحَةِ، بِحَيثُ يَقُومُ المُصَلّي بِتَردَادِ "يا رَبّي يَسوعَ المَسيحِ يا ابنَ اللهِ الحَيّ، إرحَمْني أَنا الخَاطِئ"، لِتُصبِحَ هَذِهِ الصَّلاةُ بِالمُمَارَسَةِ اليَومِيَّة، مُتَرافِقَةً مَعَ نَبَضاتِ قَلبِهِ، صَاحِيًا كانَ أَم نائِمًا.

هَذا يُدخِلُ المُؤمِنَ في هُدوءٍ دَاخِليًّ لا مَثيلَ له، حَتّى ولَو أَحاطَ بهِ كُلُّ ضَجيجِ العَالَم، ويَجعلُ قَلبَهُ وعقلَهُ مُتَّحِدَين، ويَستَنيرُ ذِهنُه، فيُماثِلُ الكَثيرَ مِنَ القِدّيسِينَ والقِدّيسَاتِ، ومِن بَينِهم القِدّيسُ "سلوان الآثوسي[3]" الّذي قالَ: "قِمَّةُ الصَّلاةِ الهُدوء".

خُلاصَةً، هَلُمَّ جميعًا نُماثِلُ صموئيلَ بِسُكُونِه، ونَقولُ مَعَهُ: "تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ".

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. صموئيل الأول ٣

[2]. لوقا ٣٥:٨

[3]. ١٨٦٦-١٩٣٨م