يطول الليل وتمرّ اللحظات دقائق، والدقائق ساعات، في بلد فقدنا فيه كلّ شعور وإحساس في الأمن والأمان، كلّما كان أحد أفراد الأسرة خارج البيت.

أذكر خلال الحرب اللبنانيّة، حيث لم يكن للهاتف المحمول وجود، والاتصالات الأرضية غير متوفّرة، لم يكن الخوف ينتاب الأهل على أولادهم، في سهراتهم ومشاويرهم، إلا من القصف طبعًا، كما هو الحال اليوم. لسان حال كلّ أبٍ وأمٍّ "ما بيجينا نوم قبل ما يسرّبوا ولادنا على البيت".

هذا واقع الأهل الذين ينشدون السلام والأمان لأولادهم، في بلد يفتقد المواطن فيه لكل مقوّمات السلامة العامة، من طرقات معتّمة، وعصابات سرقة متنقّلة، ودرّاجات نارية تروّج الممنوعات، إلى أمور أخرى تشغل الفكر وتوتّر الأعصاب.

قد نظلم أولادنا معنا، بسبب ما نتخبّط به من مصائب في هذا البلد، تدفعنا إلى مزيد من الخوف عليهم، حال خروجهم من المنزل، سواء في النهار أو في الليل. خوفنا هذا لا يفهمه الأولاد والشباب دائمًا، وقد يعتبرونه حدًّا لحرّيتهم وتدخّلًا في تفاصيل حياتهم. قلّة تستوعب هذه المخاوف وتبقي الأهل على تواصل، طالما هم خارج أسوار منازلهم.

خوف الأهل على أولادهم ليس حبًا في تملّكهم، إنّما حفاظًا على حياتهم من كل ضرر مادّي ومعنوي. يستطيع الأهل أن يمنحوا أولادهم المحبّة والمال والثقة، طالما زرعوا فيهم التربية الصالحة، لكنّ خوفهم أمرٌ طبيعيّ، خصوصًا من أهل السوء، ونحن في بلد كثر فيه الفلتان هذه الأيام. قد يخلق خوف الأهل صراعًا لا محدود بينهم وبين أولادهم، وقد يترجمُ الأهل حبّهم خوفًا، ولكن من غير الممكن أن يغرسوا في عقول أولادهم ما يتملّكهم من مخاوف وأفكار بالمطلق، بينما الأولاد لا يقدّرون العواقب. فكما يقول المثل: "قلبي على ولدي، وقلب ولدي على الحجر"، هكذا حال الآباء والأمّهات.

كم من أب وأمّ لا يدريان ماذا فعل غدر الأيام بأولادهم؟ كم من صبيّة تعرّضت للاغتصاب ولم تبح بالأمر لأهلها، خوفًا على سمعتها؟ وكم من شاب استُدرج إلى تعاطي المخدّرات ومن ثم إلى ترويجها، والأهل آخر من يعلم، إلا عند وقوع أولادهم في يد الشرطة؟ كمّ من شاب في مطلع العمر أقدم على الإنتحار ودَفنَ سرّه معه؟ هنا يصحّ القول: "مَحْلاهُون هِنّي وصغار".

إن أولادنا يعيشون معنا ولكنّهم ليسوا ملكًا لنا. هي المحبّة التي تفرض نفسها فيما نعيشه من خوف عليهم. فإذا فترت المحبّة تلاشت العلاقة وفقدنا حسّ المسؤولية تجاههم، وبالتالي يكون الأهل قد رموا بأولادهم إلى المجهول.

بالإجمال معظم شعبنا ومحيطنا ما زال يملك العقليّة الشرقيّة الساعية إلى الحفاظ على العائلة، وخصوصًا الأولاد، من غدر الأيام. يعيش الأهل في وطننا صراعًا في داخلهم، فمن جهة وضع البلد المتردّي على كافة الصعد والمستويات، الذي يرتّب خوفاً على أولادهم، ومن جهة ثانية لا يمكنهم حجز حرية الأولاد بالمطلق، فيكفيهم ما يواجهونه من أزمات ومن خوف على المستقبل والمصير.

سبق أن التقيت في هذا الصيف بعائلات هاجرت إلى دول أوروبا وأميركا وكندا. حادثت الأولاد عن المخاطر التي يمكن أن تواجههم في بلاد الاغتراب، فما كان من الأهل إلا دعوة أولادهم للإصغاء الجيّد لما أقوله. هذا الخوف الذي نعانيه في وطننا على أولادنا، حمله الأهل معهم في هجرتهم، ليس تملكًا، كما سبق وذكرنا، إنّما هو الخوف النابع من محبّة مطلقة على أولادنا وسمعتهم ومستقبلهم.

ورد في سفر الأمثال من العهد القديم: "استمع، يا ولدي، لتعليم والدك ولا تتخلى عن تعليم أمّك. هما إكليلٌ لنعمة رأسك وسلسلة لتزين عنقك"(أمثال 1: 7-9). طاعة الوالدين هي وصيّة من الوصايا العشر وهي أيضًا تعليم للعهد الجديد(لوقا 51:2 + أفسس 2:6). ونرى في الكتاب المقدس أنّ طاعة الوالدين مقترنة مع الخضوع لله، لذلك فكثير من المفسّرين يرون أنّ وصية "أكرم أباك وأمك"(خروج 20: 12؛ متى 15: 4؛ 19) هي من الوصايا التي تتجه نحو الله، فإكرام الوالدين هو اعتراف وتسليم بالسلطان الإلهي. وفي (2 تيموثاوس 2:3) يضع الرسول عدم طاعة الوالدين في قائمة علامات ارتداد الأيام الأخيرة.

رسالتي إلى أولادي وأبنائي الروحيّين وأولاد العالم أجمع، لا تتأففوا من خوف أهلكم عليكم، فإن الأيام شرّيرة. كما أدعوكم لمصارحة أهلكم بكل شيء تواجهونه، لأنّ محبة الأهل توازي محبة الله لأبنائه، والسلام.