في الوقت الذي يتعرض فيه لبنان لضغوط اقتصادية وسياسية هائلة، فإن أي استحقاق دستوري له حساباته، سواء بالنسبة للأطراف الخارجية التي تتبع سياسات مرسومة مسبقاً، أو بالنسبة للقوى السياسية اللبنانية التي تمثّل الشارع اللبناني.

هنا لا بد لنا من طرح السؤال التالي: لماذا هذه الضغوط على لبنان؟ الجواب الحقيقي يكمن في سياسات القوى العظمى، ونقتبس مقولة "مكيافيلي" الشهيرة: "الغايات تبرر الوسيلة"؛ فالدول الكبرى لا تتحرك إلّا من أجل تحقيق مصالحها، وهذا ما ينطبق على تحركها في لبنان، مع وجود أزمات عالمية وإقليمية ملتهبة، وما يستتبع ذلك من استقطاب للدول في ظلّ وجود بوادر تعددية قطبية عالمية.

في السياق تمثّل الساحة اللبنانية الشكل المصغّر للسياسات الدولية والإقليمية، فموضوع الجيوسياسية أصبح ذا أهميّة كبرى في وقتنا الراهن، في ظلّ المفاوضات (الإيرانية-الأميركية) وبينهما الوسيط الأوروبي، وفي ظلّ الحرب الروسية-الأميركية على الأرض الأوكرانية بواسطة الوكيل الأوكراني، أم بالنسبة لتدهور الأوضاع بين الصين والولايات المتحدة الأميركية بسبب موضوع تايوان، كلّ هذه الأزمات وما خلفها من حروب الطاقة تؤثّر سلباً على لبنان في تدهور الأوضاع أكثر.

بالإضافة إلى ذلك؛ وجود استحقاق دستوري مهم ألا وهو انتخاب رئيس جمهورية جديد للبلاد، وما يرافق ذلك موضوع المفاوضات مع العدو العدو الإسرائيلي بواسطة الوسيط الأميركي "راموس هوكستين"، بشأن ترسيم الحدود البحرية وضمانات استخراج الغاز وتصديره.

تبع ذلك، دخول البلاد في دوامة دستورية وقانونية، مع ما يرافق ذلك من أزمات سياسية بين الجبهات اللبنانية، مدعومة بتدخلات أجنبية، وذلك من أجل التأثير المباشر في انتخاب رئيس للبلاد.

على سبيل المثال، أقر مجلس النواب اللبناني قانون التعديل الدستوري (تعديل المادة 49 من دستور 1990) والقاضي بتمديد ولاية الرئيس الراحل "إلياس الهراوي" مدّة ثلاث سنوات، وذلك بتاريخ 19/10/1995.

ليس هذا فقط بل مدّدت ولاية الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية العماد "إميل لحود"، حيث مدّدت ولايته في النصف الثانية من العام 2004، حيث أقرّ مجلس الوزراء اللبناني مشروع قانون لتعديل (المادة 49 من دستور 1990) وبعد إحالته إلى المجلس النيابي تمّت الموافقة عليه، وبالتالي تشريع موضوع تمديد ولاية رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات، حيث تجدر الإشارة إلى أنّ ولاية رئيس الجمهورية هي ست سنوات لولاية واحدة، وبالتالي لا يحقّ دستورياً لرئيس جمهورية الترشح لولايتين متواليتين.

تركت تجربة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق "ميشال سليمان"، أثارها على طريقة عمل مجلس الوزراء، واليوم عاد نفس الحديث. حيث تم الاتفاق حينها مع بدء الشغور في منصب رئاسة الجمهورية؛ بأن تتخذ القرارات بالتوافق بين الوزراء وبالتالي إعطاء أي وزير صلاحية وضع فيتو على أي قرار. وطبيعي أن توافق كل الوزراء ليس بالأمر السهل، حيث توقف مجلس الوزراء عن أعماله لمدة ثلاثة أسابيع، وأعاد رئيس الوزراء على الطرح مسألة الأكثرية المطلوبة لإقرار البنود الواردة على جدول الأعمال.

وبعد انتخاب العماد "ميشال عون" رئيساً للجمهورية اللبنانية، ومع اقتراب انتهاء ولايته في النصف الثانية من العام 2022، عادت إشكالية من يتولى صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية في حال انتهاء ولاية الرئيس الحالي ولم ينتخب خلفاً له في المدى المنظور.

وبالتالي في حال كان هناك حكومة غير مستقيلة، وانتهت ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية، في هذا الخصوص نصّت المادة (62 من دستور 1990): "في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء". حيث إنّ الحكومة لا تعتبر مستقيلة إلّا في الحالات التالية وذلك وفق ما جاء في نصّ المادة (69 من دستور 1990) وفقاً للتالي:

1- إذا استقال رئيسها.

2- إذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها.

3- بوفاة رئيسها.

4- عند بدء ولاية رئيس الجمهورية.

5- عند بدء ولاية مجلس النواب.

6- عند سحب الثقة منها من قبل المجلس النيابي.

إذن لا يوجد أيّة إشكالية، في تولي حكومة غير مستقيلة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة وفقاً لأحكام الدستور. الإشكالية التي تطرح دائماً هي إمكانية تولي حكومة مستقيلة صلاحيات رئيس الجمهورية؟

في غضون ذلك، إن استمرار حكومة تصريف الأعمال في ممارسة مهامها وخاصة في ظل شغور سدة الرئاسة، ينسجم مع مبدأ الحفاظ على النظام القانوني والدستوري في الدولة. واستناداً لنظرية الظروف الاستثنائية، التي تفترض استمرار المؤسسات الدستورية، إذا كان ثمة ظروف استثنائية تحول دون إجراء انتخابات جديدة، يمكن لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور.

في هذا الموقف قال الفقيه الدستوري "رباط"؛ في معرض تمييزه حالة الضرورة القصوة عن الظروف الاستثنائية أن الفقه والاجتهاد في فرنسا وكذلك في القانون الإداري استقرا على أن ليس للشرعية من تطبيق في حال الظروف الاستثنائية كما يقتضي فعله في الظروف العادية... حتى إذا كان من شأن تطبيق قاعدة خاصة في ظروف استثنائية أن تجعل حياة الدولة في خطر، فيجوز عندئذ الانحراف عن تلك القاعدة وإهمال التقيد بها مؤقتا إلى أن تزول الظروف الاستثنائية. وبالتالي يمكن تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية في المجال الدستوري.

في الحقيقة مع وجود تحالفات سياسية عابرة للطوائف، نرى أن مجلس الوزراء، وفي ظل قيامه بصلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة، يتخذ قراراته استناداً إلى المرجعيات السياسية، فتسلك قرارات المجلس طريقها نحو الإقرار، بعد مراعاتها لمصالح هذه المرجعيات، وأما إذا كانت مصلحة أحد الأقطاب مهددة فإنه يعطل عمل المجلس ليس بالنسبة إلى وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية فقط وإنما أيضا صلاحيات مجلس الوزراء، بسبب موضوع الميثاقية.

الرأي السليم أن تمارس صلاحيات الرئيس مؤسسة دستورية أخرى، إذا كانت الحكومة مستقيلة ومكلفة مهمة تصريف الأعمال، تفادياً لانهيار مؤسسات الدولة، ووفقاً لقواعد استمرارية العمل في المرافق العامة. خصوصاً أنّ هناك صلاحيات لا يمكن ممارستها إلاّ بتوافق كامل مجلس الوزراء.

وبالتالي إنّ ممارسة صلاحيات الرئيس بمعنى المادة (62 من الدستور)، لا يمكن أن يدوم لأنّ طبيعة هذه الصلاحيات تتعلّق بوقائع معيّنة، وظروف خاصّة، ولمدّة محدّدة إلى حين انتخاب رئيس جديد، وتكون هذه المدة معقولة. وفقاً لما أوردناه في كتابنا (صلاحيات مجلس الوزراء بين النصّ الدستوري والممارسة العملية)، رأينا ضرورة تعديل المادة (62 من دستور 1990)، حيث إنه لا يجوز أن يمارس مجلس الوزراء الصلاحيات وأنّ يمارس في نفس الوقت صلاحيات الرئيس في الرقابة عليها، بحيث تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بجهة دستورية أخرى أو مؤسسة تابعة لسلطة دستورية كرئيس مجلس القضاء الأعلى أو رئيس المجلس الدستوري، أو استحداث منصب نائب رئيس الجمهورية.

بالإضافة إلى ذلك أنّ تكون صلاحية الجهة التي تصبح مخولة دستورياً القيام بمهام رئيس الجمهورية اللبنانية مقيّدة إلى حدٍّ ما وذلك حثّاً لانتخاب رئيس جديد للبلاد.

أخير وليس أخراً؛ تشكل أي انتخابات برلمانية أو رئاسية الصورة الصحيحة للعملية الديمقراطية وبالتالي تشكل انتقالاً سلمياً للسلطة في الدولة. إن أيّة عملية ديمقراطية، إذا لم تنفذ دون وجود معايير الإرادة الشعبية ومصلحة الدولة ومواطنيه تعتبر عملية عقيمة. فالضغوط والممارسات الخارجية تشكل عائقاً أمام مصلحة الدولة، بما يؤثّر بشكل سلبي على حقوق المواطنين ومصالحهم.

على العموم، ليس هناك من إمكانية لتعديل الدستور في المدى المنظور، وبالتالي ستتولى حكومة الرئيس "ميقاتي" المكلفة مهمة تسيير الأعمال، بعض صلاحيات رئيس الجمهورية وذلك وفقاً لما نصّت عليه المادة (62 من دستور 1990). وفي حال تشكيل حكومة جديدة تبقى إشكالية الصلاحيات موجودة حيث إن الممارسة في لبنان مختلفة عما هو موجود في النصوص الدستورية.

سيبقى الاستحقاق الدستوري القاضي بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية رهن مصالح القوى الكبرى، ومدى اتفاق الاحزاب اللبنانية، والسؤال الذي سيبقى معلق إلى حين انتهاء ولاية الرئيس "عون"، هل أنّه سيترك قصر بعبدا في حال انتهاء ولايته الرئاسية ولم ينتخب رئيس للبلاد؟ خصوصاً أنّ (المادة 62 من دستور 1990) نصّت بشكل واضح وصريح على أنّه مع خلو سدّة الرئاسة لأيّة أسباب كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء، ونتيجة لذلك لا يمكن إعمال نظرية الظروف الاستثنائية واستمرارية المرفق العام، عبر بقاء رئيس الجمهورية المنتهية ولايته في القصر الجمهوري.