لا أعرف شعبًا يتكلّم بأمور السياسة كشعبنا. الشعوب الأخرى الكل منشغلٌ في عمله وحياته الخاصّة. أمّا نحن في لبنان "منتروّق سياسة، ومنتغدّى سياسة، ومنتعشى سياسة".

وهنا تحضرني حادثة حصلت معي في مصر عام ١٩٩٧، حيث كنت في زيارة إلى أنسباء لي. بادرني أحدهم بسؤال عن الأوضاع السياسيّة في لبنان، تجنّبت الإجابة، وعند إلّحاحه بادرت بالقول إنني لا أتكلّم في السياسة، فجاء ردّه، وباللهجة المصرية المحبّبة: "لبناني وما بتتكلمش سياسة"!.

عبّر هذا القول عن واقع أليمٍ نعاني منه في بلدنا. ما هذا المرض عند اللبنانيين؟ ما هذه الآفة والسّوسة التي تنخر العقول والنفوس، وتترجمها الألسن الغاشّة؟ هذه الأيام لا يلبّي لبنانيّ دعوةً للعشاء أو الغداء إلّا وكانت السياسة الطبق الأساسيّ على المائدة. لم يعد أحد في هذا الوطن، إلّا وغدا محللًا سياسيًا واستراتيجيًّا. تخطّى اللبنانيون حدود الوطن، لينظّروا في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. وقد وصل بهم الأمر إلى القرن الإفريقي حتى. يتناقشون في السياسة والأمن والإقتصاد وحتى في الإتّفاق النّووي. يدّعون الفهم وهم جهّال، وأكبر دليل ما وصلنا إليه من دَرك سياسيّ واقتصادي. لم تعد عندي رغبة في تلبية الدعوات، أو اللقاءات ذات الطابع العام، لعلمي مسبقًا أنّ السياسة ستكون الحديث الرئيسي على الطاولة، وعلى المدعوّين المسايرة في الكلام والنقاش، الذي يتخطّى أحيانًا الخطوط الحمر، فبدل أن نتساير بلياقة وتهذيب، يشعر المرء أنّه في "برج بابل" جديد.

المشكلة تكمن في أننا في هذا الوطن لا نستطيع أن نتناقش ونتجادل بأمور السياسة باحترام لرأي الآخر، فالزعيم الذي نواليه دائمًا على حقّ، حتى لو رأى أن الأبيض أسودَ. والاخطر أن بعض الجدالات تبدأ بمشادة كلاميّة وتنتهي بتضارب ورفع للسلاح. فكم من عداوة نشأت بين الأخوة بسبب من الاختلاف في الآراء السياسيّة والإنحياز إلى زعيم معيّن، او التحزّب لفئة دون آخرى!.

تكوّنت لديّ القناعة ألا أدخل في جدل سياسي مع أحد، علمًا ان هذا الأمر ليس من أولويات الكاهن. فدوره أن يرفع صوت الحق تجاه الباطل. النقاش السياسي بين اللبنانيّين جدل عقيم، لأنّنا تربّينا على عقليّة الزعامات لا المواطنة الحقيقيّة.

ونعود ونسأل لماذا هذا البلد مقّسوم على ذاته؟.

قد يكون أشهر تعليم أعطاه يسوع عن السياسة في الإنجيل هو قوله: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وفيه يبيّن مبدأ فصل الدين عن الدولة (متّى 22:21).

خلاصة الجواب هي وجوب الطاعة لأحكام الدولة، وفي الوقت عينه إعطاء النفس لله. إذًا يجب على كلّ إنسان أن يكون أمينًا للحُكم الأرضي، وأمينًا للحاكم السماوي. في لبنان "قياصرة" كثيرون. وكلّ فئة تؤلّه قيصرها ظانّةً أنّه "منزلٌ من الله". حاشا.

للأسف، نحن في لبنان، أمناء لحكّام الطوائف والأحزاب، ولسنا بأمناء لدولتنا، وندّعي أنّنا نعبد إلهًا واحدًا، أما نفوسنا فهي مُشركة، تماهي في كثيرٍ من الأحيان زعماء الأرض مع إلإله الواحد.

لو يعي اللبنانيون أن السياسة عِلم ولها أربابها، ومَنْ يدخل السياسة من دوافع وطنية يلتزم بالقيم والمُثل، حتّى لو جوبه من خصومه. السياسةُ ليست للكل، أمّا الوطنية فهي دعوةٌ للكل، لأنّها انتماء للوطن والمواطنة، وهى الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن.

الوطنيّة، عزيزي القارئ، هي إدراك واحترام الحقوق والواجبات، لذا نحن مدعوون لكي نكون مواطنين وليس سياسيّين، حتى يستقيم الوطن وتصطلح الأمور. "ومن له اذنان للسمع فليسمع".