"عندما تشرق الشمس فوق رؤوسنا جميعا، فلن تفلت من أشعتها أي منطقة؛ أمّا عندما تأتي الغيوم فسوف تسقط امطارٌ على منطقة معينة دون أخرى. دعونا نحافظ على وحدتنا"!.

هذا ما قاله قداسة البابا فرانسيس في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية في العاصمة «استانة» الكازاخية، مخاطبًا 1000 مندوب من القادة الروحيين من 50 دولة في هذه الأراضي التي اجتازتها قوافل كبيرة عبر القرون، و تشاركت مع بعضها البعض العديد من التواريخ والأفكار والمعتقدات والآمال.

لطالما كانت كازاخستان مكانًا لاجتماع التجار والمسافرين الذين يسافرون من الشرق إلى الغرب، والمعروف باسم طريق الحرير. و في القرن الحادي والعشرين، عاد الصينيون لإحياء هذه الطرق عبر السكك الحديدية والطرق السريعة لتعزيز التجارة عبر العالم عن طريق مبادرة الحزام والطريق(BRI).

غير أنَّ طريق كازاخستان اليوم كما عرّفها الحبر الأعظم ليست مجرد طريق لقاء أو تلاقٍ؛ بل هي طريق تهدف إلى فطم الإنسانية عن كل الماديات والرذائل والشذوذ والانقسامات. إنّها طريق الأمن والاستقرار والسلام والوحدة!.

بدأت كازاخستان، التي تفتخر بخلق مجتمع متعدد الأديان والأعراق يعيش في وئام نسبي، الكونجرس في عام 2003 في أعقاب العداء الديني الذي نشأ في جميع أنحاء العالم بعد هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية. ومؤتمر «قادة الأديان» يعقد كل ثلاث سنوات لدعم «مبادرات السلام والتسامح والحوار بين قادة وأتباع الأديان». وقد استقطب الحدث الأول (عام 2003) 17 وفدا من 23 دولة. أما مؤتمر هذا العام، الذي بدأ في 14 أيلول ٢٠٢٢، فقد استقطب أكثر من 100 وفد من 50 دولة إلى جانب حوالي 150 من وسائل الإعلام الدولية و 500 من وسائل الإعلام المحلية، مع مشاركة تاريخية للبابا فرانسيس، الذي وصل في 13 أيلول الى كازاخستان -وهي أول زيارة من هذا القبيل يقوم بها البابا إلى الدولة الواقعة في آسيا الوسطى منذ 30 عامًا، وفي بلد تقطنه أغلبية مسلمة- بحيث ينتمي 70 في المئة من السكان إلى العقيدة الإسلامية، بينما يوجد فقط 250 ألف كاثوليكي من أصل 15 مليون نسمة، وهذا بحد ذاته حدث تاريخي، ثمّنه الرئيس الكازاخستاني "قاسم جومارت توكاييف" مؤكدا أن وجود البابا فرانسيس سيضيف قيمة إلى التجمع ويساعد على نشر رسالة كازاخستان على نطاق واسع.

وفي خضم ترحيبه بالبابا فرانسيس، أشار "توكاييف" إلى أنه لمدة 30 عامًا بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، وضعت بلاده نموذجها الخاص للوفاق بين الأعراق والأديان على أساس مفهوم "الوحدة في التنوع". وأشار إلى أنه نتيجة لهذه التجربة، عقدت كازاخستان مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية، و الذي أثبت منذ إنشائه أنّه مثال جيد لكيفية تكاتف الناس كواحد، على الرغم من اختلافاتهم.

العمل للحد من الأزمات

يشهد العالم بأسره اليوم التأثير المستمر للوباء والصراعات والعقوبات والتغير المناخي والقضايا العالمية الأخرى. وقد أعرب البروفيسور أحمد الطيب، الإمام الأكبر لجامعة الأزهر الإسلامية في القاهرة، عن أسفه لأننا "كنا على وشك التعافي من الوباء، حتى غمرتنا كوارث أخرى. وقد تأثرنا مؤخرا بالسياسات المتعجرفة التي تؤثر على الاقتصاد العالمي وتدمر حياة الناس". وقال مولين أشيمباييف، رئيس سكرتارية المؤتمر السابع لزعماء الأديان العالمية والتقليدية في 13 أيلول، "إننا جميعًا نرى زيادة في التوترات والصراعات الجيوسياسية في جميع أنحاء العالم". وأضاف الحبر الأعظم: "الفقر هو بالضبط ما يمكّن من انتشار الأوبئة وغيرها من الشرور العظيمة التي تزدهر". وحذّر من أنه "طالما استمر انتشار اللامساواة والظلم، فلن تكون هناك نهاية لفيروسات أسوأ من كوفيد - فيروسات الكراهية والعنف والإرهاب". وهنا يبرز دور قادة الأديان نحو مزيد من الوحدة وتعميق الأخوة الإنسانية للوقوف صفًا واحدًا من أجل خير البشرية.

الاختلاف لا الخلاف

وقال أنطوني فولوكولامسك، رئيس العلاقات الكنسية الخارجية في بطريركية موسكو، نقلاً عن بيان لزعيم الكنيسة: "لقد رأينا تشويهًا للحقائق، وسمعنا كلمات مليئة بالكراهية ضد الأمم والشعوب (التي) تحفز الناس على عدم الحوار والتعاون. وانني أشكر المنتدى الذي وفره الكونغرس لإتاحة الفرصة لإجراء مثل هذا الحوار".

كما أعرب الدكتور فيدون مومبيكي، الأمين العام لمجلس الكنائس لعموم إفريقيا، عن صوته الوحيد من إفريقيا، قائلاً إن هناك أشخاصًا في جميع الأديان لا يحترمون كرامة الآخرين، مما يؤدي إلى حدوث صراع عندما يتفاعل الآخرون. وعندما طلب منه لاحقًا شرح هذه النقطة بشكل أكبر، قال، "عندما لا يلتقي الناس، يكون لديهم كل هذه الصور النمطية، ولكن عندما تلتقي، تكتشف أن هذا ليس ما كنت أفكر فيه".

وأوضح الدكتور مومبيكي أنه في إفريقيا، يعتقد الكثير من الناس أن الإسلام عنيف بسبب ما يحدث في الصومال وزائير وشمال نيجيريا. وأشار إلى أنه "عندما أقابل المسلمين هنا وأرى كيف يتحدثون عن الإسلام، والتزامهم بالكرامة الإنسانية للجميع (أرى) موقفهم من الحياة مختلف".

وقد دعا البروفيسور أحمد الطيب، الإمام الأكبر لجامعة الأزهر الإسلامية في القاهرة الى تحقيق "الأخوة الدينية" التي رآها باعثة "الأخوة الإنسانية العالمية". وأشار إلى تجربة وثيقة "الأخوة الإنسانية" التي وقعها الأزهر والفاتيكان في أبوظبي، وقال إنه رغم اختلافه والبابا فرنسيس، ديناً وعرقاً وتاريخاً ووطناً "ورغم أن آراء متشددة هنا وهناك حاولت أن تعرقل وما زالت، بل حرمت أحياناً، مجرد التقاء شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الكاثوليكية، فإنهما حين اجتمعا، ومنذ اللقاء الأول، بنية صادقة، شعر كل منهما بأنه يعرف صاحبه منذ سنين عدة، ثم ما لبثت القلوب أن التقت على المودة المتبادلة وعلى الصداقة والإخلاص".

وخلال مؤتمر صحفي نظمته وزارة الخارجية في 12 أيلول، عندما سأل أحد الصحفيين كيف يمكن لكونغرس كهذا أن يقدم حلاً بنّاءً للنزاعات بين الدول، قال بولات سارسينباييف، رئيس مجلس إدارة مركز نزارباييف لتنمية الحوار بين الأديان : "إن ما يجعل المؤتمر فريدًا هو حقيقة أن كازاخستان، على عكس الأحداث المماثلة الأخرى، تستقطب قادة أديان العالم، وليس الممثلين فقط".

وفي سؤال آخر حول الرسالة التي تريد جمهورية كازخستان إيصالها للعالم من مثل استضافة هذا المؤتمر الهامّ، أجاب سارسنباييف بأن كازخستان تريد أن تؤكدَ أن قادة الأديان حينما يجتمعون في مكان واحد من أجل مُناقشة كل الأمور العالقة بشفافية ودون أية عوائق، يستطيعون الدفع أكثر نحو إيجاد بيئة مُشتركة لنبذ الكراهية وقبول الآخر ؛ الأمر الذي سينعكس إيجابًا على أمن واستقرار وسلام المجتمعات والشعوب.

البيان الختامي

وقد احتوى الإعلان الختامي للمؤتمر السابع، الذي قُدِّم في نهاية الاجتماع الذي استمر يومين بحضور البابا فرانسيس، على 35 توصية. وأكد أن أغراض المؤتمر والإعلان هي توجيه الأجيال المعاصرة والمقبلة للبشرية في تعزيز ثقافة الاحترام المتبادل والسلام من خلال إتاحة وثيقة يمكن استخدامها في الإدارة العامة لأي بلد في العالم، وكذلك كما هو الحال مع المنظمات الدولية، بما في ذلك مؤسسات الأمم المتحدة. كما كلف الإعلان الأمانة العامة للكونغرس بوضع ورقة مفاهيمية لتطوير مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية كمنصة عالمية للحوار بين الأديان لعقد 2023-2033. وقال مولين أشيمباييف، رئيس أمانة مؤتمر زعماء الأديان العالمية والتقليدية، بعد قراءة الإعلان، أنَّ الوثيقة ستقدم إلى أعضاء الأمم المتحدة في الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة، على أمل أن يتحول الزخم الذي شهده المؤتمر الى واقع ملموس، والخطابات الى خطط عمل حقيقية و أجندة بنّاءة تؤسس لمنظومة عالمية جديدة…

*أستاذة جامعية وباحثة سياسية