تحتلّ الكنيسة في وجدان المسيحيّين الملتزمين مكانةً جوهرية. ترافقهم في محطّات أساسية في حياتهم، من المهد إلى اللحد. فالكنيسة ليست مبنى، إنمّا هي كلّ مكان يتجمّع فيه المؤمنون للعبادة. هي الجماعة التي تلتفُّ حول الله وكلمته.

لغويًّا تأتي كلمة "الكنيسة"، كما وردت في العهد الجديد، من المصطلح اليوناني Εκκλησιά الذي يتكوّن من كلمتين يونانيتين، تعني "التجمّع" و"الدعوة" أو "استدعاء". هذا يعني أنّ كنيسة العهد الجديد هي جسد المؤمنين الذين استدعاهم الله من العالم ليعيشوا كشعب له تحت سلطة يسوع المسيح.

نحن نؤمن أن الكنيسة هي جسد المسيح، ولا توجد من دونه. بدأت يوم العنصرة من خلال عمل الروح القدس، وستستمر إلى المجيء الثاني، وستصمد مهما واجهتها صعاب وتحدّيات وعثرات، من داخلها ومن خارجها، والسيد نفسه قال "وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا"(متى 16: 18). أبواب الجحيم هي إشارة لِقُوَى الشر، وهذه لن تنتصر على الكنيسة، بل ولا الموت قادر أن يسود على المؤمنين، بل هم سيقومون من الموت ليرثوا الحياة الأبدية. هذه الآية أيضًا تشير إلى التجارب والحروب ضد الكنيسة والمؤمنين، سواء كان مصدرها الشيطان أو بشر يحركهم شياطين. فابن الله، حجر الزاوية، هو بنفسه الذي يسند كنيسته، فلن تنهار مهما اشتدّت عليها المحن وخذلها رجالها.

من هنا نحن مدعوون لأن نميّز بين الكنيسة التي أسّسها يسوع المسيح، وبين قادتها وأعضائها عبر التاريخ، الذين قد يسقطون في الهرطقات والخطايا، والتاريخ الكنسي حافل بذلك، إلا أن نعمة الروح القدس تبقى أقوى وحافظة للكنيسة العروس التي بذل المسيح نفسه لأجلها، "لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ" (أفسس 5: 27). تاليًا، إن أخطأ واحد من الكنيسة لا يعني هذا الأمر أن الكنيسة خاطئة بأكملها. وبولس الرسول علّمنا قائلًا: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا"(غلاطية 6: 1).

في موقع آخر، نبّه يسوع من العثرات، "وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ"!(متى 18: 7). المسيح يعلن أن الويل ينتظر من يسبّب عثرةَ وسقوطَ غيره، وصار محكومًا عليه بالهلاك مثل الذي يغرق في عمق البحر، الذي يرمز للشهوات العالميّة، فيسهل سقوطه في خطايا كثيرة، ويبتعد عن الله. قد تكون من أبناء الكنيسة، ولكنك تعير إذنك لهذا وذاك ممن يحيطون بك أو تعاشرهم، فيسلّطون الضوء على مظاهر سلبية في الكنيسة والإكليروس، وهذه توجد في أي زمان ومكان. وقد تثور مدفوعاً بغيرة مُحبّة فتبدأ بنشر تلك السلبيات في المجالس والمحافل والاجتماعات، ليس للبنيان، بل بغية فضح الأمور والظهور بمظهر العارف والمُدرك والرافض لما يجري. وتكون عثرة للآخرين الصغار في المعرفة فيبتعدون بسببك عن الكنيسة. وقد تكون حاملاً غيرة إيليا وتظن أنّ الكنيسة جماعة من الملائكة لا يجوز لها أن ترتكب الأخطاء، ولربما ظننتَ أن الكاهن أو الأسقف هو إنسان معصوم عن أي كبيرة، ولا ترى نفسك وموقعك، بل ترى أخطاءه وحسب، وتجعل منه مادة لحديثك في الجلسات. هذا النوع من الناس عاقبهم السيد المسيح بالقول: "خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ." (لوقا 17: 2).

يُعلّق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم على هذه العقوبة بقوله: "بهذه العقوبة التي يستحقّها الإنسان الذي يُعثِر غيره، نتعلّم المكافأة لمن يُنقذ الآخرين. فلو لم يكن خلاص نفس واحدة عظيم جدًا لدى المسيح ما كان يهدّد بعقوبة كهذه لمن يُعثِر إنسانًا". لذا لا تخافوا من المعثّرين والمهرّطقين والساقطين في الخطايا، أن يؤثّروا على الكنيسة، لأنها تبقى النافذة الوحيدة التي يمد الله يديه من خلالها إلى العالم، وهو القادر على حفظها وصونها، وقد بذل دمه لأجلها. الله قادر أن يميّز بين الزوان والقمح عند الحصاد. وجوه تأتي وآخرى ترحل، بعضها يسقط والبعض الآخر يصمد، إنّما الكنيسة باقية. لذا فلنعمل في حقل الرب كأمناء وأوفياء، جاهدين في توبة مستمرة لأجل المسيح الذي بذل نفسه لأجل خلاصنا، ونحصّن أنفسنا من الوقوع في الخطايا، فتكون الكنيسة عندها على ملء قامة يسوع المسيح، وعندها فقط تكون كنيسة كما يشتهيها َمؤسسها، فلا نتعثّر عند سقوط هذا وقيام ذاك.