مضحك الوضع الذي وصل اليه لبنان، وهو المضحك المبكي بطبيعة الحال. اما المضحك فهو الاصرار على تصوير الامور على انها تسير بشكل طبيعي، وان المؤسسات لم تتأثر البتة بكل الاوضاع الاقتصادية والماليّة والسياسية المأساوية التي تعصف بالبلد ككل، وانها تقوم بعملها كالمعتاد وبطريقة مستقلة وبعيدة كل البعد عن الضغوط، محلية كانت ام خارجية. اما المبكي في المسألة، فهو وجود اناس يصدقون ما يقال عن الاستقلالية والحرية في اتخاذ القرارات، الكبيرة منها والصغيرة، واننا نقارع دول العالم اجمع بالديمقراطية والمساواة والشفافية، فيما لا يمضي يوم واحد لا يشتكي فيه المسؤولون قبل غيرهم، من ​رئيس الجمهورية​ الى رئيس مجلس النواب الى رئيس الحكومة الفعلية والمستقيلة، الى النواب القديمون منهم والجدد، الى الوزراء والمدراء العامون، و... من عدم قدرتهم على تغيير الامور ويكتفون بدعوة الناس الى التجاوب مع متطلبات المرحلة (التي يصادف انها تؤمّن متطلباتهم).

بالامس القريب، انتفض رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، ورد على رئيس الحكومة المكلف ​نجيب ميقاتي​ بحدّة في مجلس النواب: "انا لا التزم بصندوق نقد ولا بغيره و​المجلس النيابي​ سيد نفسه وهناك سيادة في مجلسنا"، وذلك بعد ان قال ميقاتي: "تعهّد (​صندوق النقد الدولي​) بعد الاتّفاق أن يسدد العجز وإلا ذاهبون إلى التضخم".

في المبدأ، ولو كنا في بلد آخر، ولو كنا نتمتع بمسؤولين آخرين، لكان علا التصفيق في القاعة ولكانت شعبية برّي ضمنت له البقاء ولاية جديدة على رأس المجلس (ولكن في لبنان، لا يحتاج بري الى مثل هذا الكلام ليبقى على رأس المجلس، وهو الذي يدوم ويدوم ويدوم على كرسي رئاسة البرلمان)، انما نحن في لبنان، وهذا الكلام لا هدف منه سوى "مرجلة" ورفع معنويات بعض الذين يعتقدون ان ما يقال هو الحقيقة. ولكن كيف يمكن الثقة باستقلالية المجلس (وسواه من المؤسسات)، اذا كان النواب انفسهم يشكّكون بحرّية وشرعية القرارات الصادرة عن المجلس النيابي؟.

يعلم بري تماماً، كما غيره، ان ما يطلبه صندوق النقد سيحصل عليه، ومطالبه لم تتغير منذ العام 2018 وحتى اليوم (تم تعديلها لتتلاءم مع السقوط الحرّ للاقتصاد والماليّة اللبنانيّة)، والوفود التي اتت وغادرت وستأتي تباعاً لا تهدف الى التفاوض بل الى التأكيد على توقيع لبنان الاتّفاق، مع العلم انّ المسؤولين جميعاً بمن فيهم برّي نفسه، يشدّدون في كل مناسبة على ضرورة الاسراع في توقيع الاتفاق مع صندوق النقد لانه طريق الخلاص للبنان، والا لماذا يتبجّح رئيس المجلس بالاسراع في اقرار القوانين والتشريعات المطلوبة التي يطلبها صندوق النقد؟ ولماذا يشتكي النواب من ​الموازنة​ ويعارضونها بأعلى أصواتهم فيما يدرك الجميع ان اقرارها كان لا مفر منه؟ هذا على صعيد الموازنة، اما فيما خص الاستحقاقات والمسائل الاخرى، هل ينتخب النواب فعلاً باستقلالية وحريّة تامة رئيس الجمهوريّة منذ ما قبل ​اتفاق الطائف​ وحتى اليوم؟ وهل تتشكّل الحكومات وتجرى الاستحقاقات الدستوريّة ومنها الانتخابات النّيابية بإرادة وتوقيت لبناني؟ وكيف يكون مجلس النواب سيّد نفسه اذا كانت كل القوانين التي يقرّها عرضة للانتقاد من... النواب قبل سواهم؟.

مشكور برّي لاعطائه شيئاً من الزخم والحماس الى مشجّعيه وبعض اللبنانيين والحديث بلغة "المراجل"، ولكن الواقع بعيد كل البعد عن ذلك ويجب قول الامور كما هي من دون مواربة، لانّها واضحة للجميع، وعلى الرغم من الرغبة والامل في ان نتمكن يوماً من ان يكون مجلس النواب وغيره من المؤسسات مستقلة وسياديّة بالقول والفعل، علينا ان نرضى اليوم بما يمليه علينا الواقع، ولنبتعد عن "المراجل" التي لا فائدة منها.