على الرغم من الكم الهائل من المواصفات التي كانت تطلقها القوى السياسية، طوال الفترة الماضية، كانت الدعوة إلى جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية "الإختبار" الحقيقي لمدى جهوزيتها لهذا الإستحقاق، حيث تبين أن غالبيتها كانت "مصدومة" من دعوة رئيس ​المجلس النيابي​ نبيه بري، وكأن المهلة الدستورية لم تبدأ منذ ما يقارب الشهر.

سريعاً، بدأت المعلومات تتسرب عن لقاءات وإتصالات بعيداً عن الأضواء، ف​الكتل النيابية​، التي لا تعرف ماذا تريد، تبحث عن المخارج المناسبة لها، على أساس أنها لا يمكن أن تذهب إلى الجلسة "مصدومة" فقط، بل تحتاج إلى موقف تعبر عنه، خصوصاً بعد أن صورت هذا الإستحقاق على أساس أنه مصيري في مستقبل البلاد.

في هذا الإطار، النقاش العملي كان بين المقاطعة، أي تطيير النصاب، أو الذهاب بأكثر من إسم، على قاعدة أن الجلسة الأولى تأتي في إطار القيام بالواجب لا أكثر، فالجميع يعلم أنها لن تقود إلى إنتخاب رئيس جديد، بسبب عدم توفر أكثرية من 86 نائباً لصالح أي مرشح رئاسي، بينما العمل الجدي من المفترض أن ينطلق بعد ذلك، حيث يصبح المرشح بحاجة إلى أكثرية بسيطة من 65 نائباً، مع العلم أن حالة الإرباك تسيطر على فريقي الإنقسام السياسي التقليدي.

عند الوصول إلى تلك المرحلة، لن تكون الكتل النيابية جاهزة لإنجاز الإستحقاق، فالمسألة أكبر منها وتحتاج إلى تفاهمات خارجية، إقليمية ودولية، غير متوفرة حتى الساعة، لكن دورها في الجزء الثاني من المسرحية سيكون منع إنعقاد جلسة جديدة، خوفاً من أن ينجح أيّ فريق في تأمين 65 نائباً لإنتخاب مرشحه المفضل، بينما اليوم كل فريق يتمسك بسلاح النصاب لمنع تجاوز إرادته.

ما تقدم، يقود إلى التأكيد من جديد بأن لا لعبة ديمقراطية في ​الإستحقاق الرئاسي​، فالعملية لا تحصل بالإنتخاب بل بالمساومات خارج أروقة البرلمان، أما في طريق الوصول إلى التسوية فهناك أدوار سيؤديها النواب بكل إحترافية: من الحديث المتكرر عن المواصفات إلى طرح "لبننة" الإستحقاق، وصولاً إلى الإعلان عن رفض التدخلات الخارجية وغيرها من الشعارات الرنانة.

هذا المشهد ليس بالجديد على المجلس النيابي ال​لبنان​ي، فالعودة إلى الخلف لأيام قليلة، أي إلى جلسات مناقشة الموازنة العامة للعام 2022، تؤكده، حيث كانت غالبية النواب ضدّ هذا المشروع، الذي حذروا من مخاطره على المستويين الإقتصادي والإجتماعي، لكن في نهاية المطاف أقر، تحت عنوان المصلحة الوطنية ومنح الشعب ما يستحقه من تشريعات، لأنّ نواب الأمة لا يعملون إلا لتحقيق مصالح المواطنين الذين لا يقدرون النعمة.

بالعودة إلى الإستحقاق الرئاسي، هناك معادلة ينبغي أخذها بعين الإعتبار، تكمن بحرص غالبية القوى على الحديث، لا سيما بعد البيان الأميركي الفرنسي السعودي، عن المواصفات التي تريدها القوى الخارجية في الرئيس المقبل، أي ما توافق عليه أو ترفضه، كالإعلان، على سبيل المثال، عن أن الرياض لا تريد رئيساً من فريق معيّن، وبالتالي لا يمكن أن يتم إنتخاب شخصية محسوبة أو مقربة من هذا الفريق.

هذا الحرص يأتي من معادلة أخرى، تقوم على أساس أن لبنان هو عبارة عن ساحة نفوذ بين مجموعة من القوى الإقليمية والدولية، لا يمكن أن يقر فيها أي أمر، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قبل أن يتم التوافق بين هذه القوى، وهو ما يدفع إلى ربط جميع الإستحقاقات بأحداث خارجيّة، تماماً كما هو حال الإستحقاق الرئاسي الحالي، حيث التسليم بأن الإنتخاب سيحصل عندما يتم التوافق الأميركي الفرنسي السعودي الإيراني، وتعلق الآمال على ما يمكن أن تقوم به باريس على هذا الصعيد، نظراً إلى قدرتها على التواصل مع الجميع.

في المحصلة، جلسة الغد، بغض النظر عن السيناريوهات التي من الممكن أن تذهب إليها، ستكون عبارة عن فصل من مسرحية، وليس إختبارا حقيقيا لنوايا الكتل النيابية كما يعلن الكثيرون، سيؤدي فيها النواب أدوارهم بكل جدية، لكن عملية الإنتخاب أو الإختيار هي في مكان آخر بعيد عن أروقة المجلس النيابي، لم توجّه، حتى الساعة، الدعوة لإجتماع اللاعبين المؤثّرين فيها.