"القدّيس يوحنا الإنجيليّ الثاولوغوس Theologos (اللاهوتيّ) في الصمت".

هذا عنوان هذه الأَيقونة الرائعة للقدّيس يوحنّا الإنجيليّ اللاهوتيّ الذي نُعيّد له مَرَّتَين في السنة: في السادس والعشرين مِن شهر أيلول كتذكار انتقاله، وفي الثامن مِن شهر أيّار.

تُدْخِلُنا هذه الأيقونة في عُمق اللاهوت المسيحيّ.

كيف لا والقدّيس يوحنا الإنجيليّ هو شيخ اللاهوتيّين. يُرمَز إليه بالنَّسْرِ، لأنّه حلّق في اللاهوت كما يُحَلّق هذا الطائرُ، ذو النَظَرِ الثاقبِ، في السَّماء عاليًا. لِذَلك يُصوَّر في بعض أيقوناته مع النَّسْرِ، الذي هو أحد الحيوانات الأربعة الرمزيّة في الكتاب المقدّس، بحسب رؤية حزقيال النبيّ (حز١٠:١)، وسِفر الرؤيا (٧:٤).

ما معنى أنّ يوحنا حَلَّقَ في اللاهوت؟.

يأتينا الجواب مع الآية الأولى مِن إنجيله: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله". (يوحنا ١:١). هذه الآية تأخذنا مباشرةً إلى بداية الكتاب المقدّس، حيث نقرأ في سِفرِ التكوين، أوّل سِفرٍ مِن العهد القديم في آيته الأولى: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" (تكوين ١:١).

إنّه الخَلقُ الجديد بالرّب يسوع المسيح الإله، الذي ارتضى أن ينزل مِن سمواته ويتجسّد ليرفعنا إليه. ليس مِن كلمةٍ بشريّةٍ تستطيع أن تُعَبِّر عن هذا التدبير الإلهيّ لخلاصنا.

أدرك الإنجيليّ هذا الأمر، فقَصَدَ منذ بداية إنجيله حتى نهايته، أن يُدخلنا في صَمتٍ مُقدَّسٍ لنسيرَ مع يسوع في مسيرته إلى الصليب ومِن ثمّ القيامة.

لُقِّبَ يوحنا الإنجيليّ بالثاولوغوس لأنّه امتاز عن الإنجيليين الثلاثة الآخرين، متى ومرقس ولوقا، بكلامه على الابن وعلاقته بالآب السماويّ. فَعلى سبيل المثال وليس الحصر: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يوحنا ١٤:١). وما قاله الرّب: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا ٣٠:١٠). ودعوة يسوع أن نثبت فيه: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ" (يوحنا ١:١٥).

إذا سألنا: مَن هو يسوع؟ لَما وجدنا جوابًا أفضل ممّا هو في الإصحاح السادس مِن إنجيل يوحنا، أختار منه الآية التالية: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ" (يوحنا ٤١:٦). قول يسوع هذا صدم اليهود، والصدمة الأكبر عندما قال لهم أنّه موجود منذ الأزل، خارج الزمن: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". (يوحنا ٥٨:٨).

كذلك نقرأ في إنجيل يوحنّا جواب يسوع لليهود بأنّه الإله الخالق "يهوه"، الذي تكلّم مع موسى النبيّ في العليقة المشتعلة غير المحترقة (خروج ٣)، وذلك عندما سألوه: "مَنْ أَنْتَ"؟ فأجابهم: "أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ" (يوحنا ٢٦:٨).

لم يفهم اليهود هذا الكلام، لأنّهم كانوا يعيشون في "اللا صمت"، إذ كانت نفوسهم مضطربة بضجيج خطاياهم وكبريائهم. وكان يسوع قد أعطاهم علامة: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ" (يوحنا ٢٨:٨). الرفع هنا هو الصلب.

كان هذا تمامًا حوار يسوع مع المعلّم اليهوديّ نيقوديمس الذي عجز عن إدراكه: "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". (يوحنا ١٤:٣-١٥). لربما أدرك نيقوديمس معناه بعد الصلب، فأتى يساعد يوسف الرامي بدفن يسوع. (يوحنا ٣٩:١٩-٤٠).

لا تكفي الكلمات للتكلّم على الكنوز السماويّة التي تركها لنا هذا اللاهوتيّ الذي كان يسوع يحبّه (يوحنا٢٠:٢١): إنجيله وثلاث رسائل وسِفر الرؤيا. بالإضافة طبعًا إلى سيرة حياته.

كذلك نجد في إنجيل يوحنّا كلامًا دقيقًا عن انبثاق الروح القدس: "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي"(يوحنا ٢٦:١٥).

نعود إلى أيقونة يوحنّا البهيّة، التي تُظهره في سنوات حياته الأخيرة.

ظهر هذا النوع مِن التصوير في روسيّا ابتداءً مِن القرن السادس عشر ميلادي، حيث نشاهد فيه الإنجيلي يضع يده اليمنى على فمه، وحركة أصابعه تمثّل الحرفَين الأوَّلَين لكلٍّ مِن: "يسوع Isous IHCOYC" و"المسيحChristos XPICTOC" في اللغة اليونانيّة (قديمًا) أي ICXC.

هكذا يبارِك الكاهن بيده اليمنى، ممّا يعنى أن الرّب يسوع المسيح هو الذي يبارِك كلّ حين، إذ هو رئيس الكَهَنة.

إنّ التقاء الأصابع الثلاثة بالإبهام تشير إلى التجسّد الإلهيّ الذي هو مشيئة إلهيّة ثالوثيّة: الآب والابن والروح القدس. فالربُّ يسوع المسيح هو إلهٌ تامّ، وبتجسّده أصبح أيضًا إنسانًا تامًا: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا (يوحنا ١٠:١)". هذا هو إيماننا.

أخذت هذه الأيقونة اسمها مِن حركة يد القدّيس اليمنى، حيث نشاهد الإنجيليّ يوحنا في حالة إصغاء وتأمّل عميق وصمت إلهيّ مقدّس.

الحدث هنا إلهيّ، والقدّيس لا يَكتب شيئًا مِن وحي مخيّلته البشريّة. بل كلّ كلماته موحًى بها مِن الله: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ." (٢ تيموتاوس ١٦:٣).

يحمل القدّيس يوحنّا في يده اليسرى إنجيلًا مفتوحًا مُدوّنًا عليه الآية الأولى مِن إنجيله: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ." وعلى كتفه الأيسر ينحني ملاك ليتكلّم معه، فيهمس في أذنه كلامًا إنجيليًّا. كيف لا والإنجيليّ يوحنّا أصبح أَليفَ الملائكة وجليسهم. فهل ننسى أنّه اتَّكأ على صدر الربِّ في العشاء السريّ، حيث غرف منه حنانًا وخلاصًا؟.

إن انحناء رأس الإنجيليّ يوحنا وانخفاض نظره يأتيان في انسجامٍ كاملٍ مع انسحاقٍ روحيٍّ وتواضعٍ كُلّيٍّ أمام الرّب.

خلاصة، أمام هذه الأيقونة الرائعة، نسمع القدّيس يوحنا السلّميّ[1] (+٦٤٩) يقول: "مَن بَلَغَ الهدوء الكامل أَدرَكَ عُمقَ الأسرار الإلهيّة[2]".

فبشفاعة القدّيس يوحنا الإنجيلي الثاولوغوس يا مخلّص خلّصنا.

إلى الرّب نطلب.

[1]. كاتب كتاب السلّم إلى الله.

[2]. كتاب السلّم إلى الله - المقالة ٣:٢٧.