نصّت المادة 72 من قانون الشراء العام على أن يخضع القائمون بمهام الشراء العام لتدريب متخصص مستمر إلزامي تنفذه وزارة المالية-معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، ثمّ اشترطت في فقرتها الثانية أن يُنسّق التدريب مع المعهد الوطني للإدارة والجهات المعنية مع الحفاظ على مبدأ التآزر والتكامل في الأدوار بين مختلف المعاهد ومراكز التدريب التي تُعنى بتعزيز القدرات على المستوى الوطني ويشجع تعزيز النهج التعاوني مع مراكز المعرفة.

تضمّنت هذه المادة بياناً لمحور النشاط والمنظمين له وأهداف هذا التنظيم، فمحور التدريب يتولاه معهد باسل فليحان، أما تنظيم التدريب ووضعه مناهجه واختيار المدرّبين والمتدربين فلا بدّ بشأنه من تنسيق مع المعهد الوطني للإدارة والجهات المعنية. وكان الهدف من هذا التسيق –بحسب القانون- هو التآزر والتكامل في الأدوار بين مختلف المعاهد ومراكز التدريب بغاية رفع المستوى الوطني.

إذٍ إنه دور تنسيقي تكاملي وتعاضدي بين الجميع، بحيث لا يحقّ لأي جهة أن تستأثر بمهام التدريب وتنظيمة بمعزلٍ عن الجهات التي أناط بها المشترع دوراً تنسيقياً له دلالة.

والتنسيق لا يعني خدمة من وراء الستار أو من الخلف ولا كذلك يعني أنه استنسابي من الممكن الاستعانة بالمنسق أو تجاهله، والدليل أن عبارة التنسيق وردت عدّة مراتٍ في قانون الشراء العام، ومن واجب جهة التدريب شرحها للمتدربين، فهل يعتمدون عدّة معاني لكلمة "تنسيق" بحسب ما نراه موافقاً لقناعاتننا وأهوائنا، بل وماذا يبقى من قانون الشراء العام إذا ابتدأنا تطبيقه بالاستنساب واستبعاد إدارات من أداء واجبها المحدد في هذا القانون. إن هذا التصرف سوف يعطي انطباعاً سيئاً حول مآل هذا القانون وبأن المعنيين بطبيقه ليسوا جدّيين وأنهم يفسّرون أحكامه كما يحلو لهم، ويعزز فرضية ما أدلى به رئيس لجنة الإدارة والعدل يوم 29/9/2022 بأن مجلس النواب يقرّ قوانين صورية ولا توضع لتطبّق.

وإذا عدنا لمواد قانون الشراء العام التي تتحدث عن التنسيق، نقرأ مثلاً:

1- المادة 73 التي تنصّ على أن تحدد المراسيم التطبيقية أطر الكفايات المعرفية والمهارات والخبرة المهنية والسلوكيات إضافة إلى التوصيف الوظيفي وشروط التوظيف و/أو التعيين والترفيع الخاصة بالعاملين في الشراء تعدها هيئة الشراء العام بالتنسيق مع مجلس الخدمة المدنية"

فهل الدور التنسيقي لمجلس الخدمة المدنية هو دور ثانوي، وهل تستطيع هيئة الشراء العام إعداد مشروع المرسوم بتجاهلٍ كامل لدور مجلس الخدمة المدنية؟.

2- المادة 76 : تعنى الهيئة بتنظيم الشراء العام والإشراف عليه ومراقبته وتطوير إجراءاته ونظمه وأدائه كما تعنى بالتنسيق بين مختلف الجهات الشارية وتقديم المساندة الفنية والإرشاد لها. ولها أن تقوم بالمهام التي أنيطت بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:.... 14 - التحقق من مؤهلات الأعضاء المقترحين لعضوية لجان التلزيم من قبل الجهات الشارية وبالتنسيق مع الجهات الرقابية المعنية،... .

بحسب هذا النص لا تستطيع هيئة الشراء العام تحديد مؤهلات أعضاء لجان التلزيم من دون الرجوع إلى هيئة التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة. وأن التنسيق مع هذه الهيئات واجب قبل تحديد مؤهلات أعضاء لجان التلزيم.

3- المادة 78 - شروط وآلية تعيين رئيس وأعضاء الهيئة، حيث نصّت الفقرة ز من هذه المادة أن يصار إلى تقييم طلبات الترشيح المقبولة من قبل لجنة مؤلفة من: رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، رئيس ديوان المحاسبة، رئيس مجلس الخدمة المدني، رئيس التفتيش المركزي. بحيث يتولى رئيس مجلس الخدمة المدنية تنسيق وإدارة أعمال هذه اللجنة.

إن التنسيق المقرر في هذه المادة هو أشبه بأعمال رئاسة اللجنة، إلا أن المشترع لم يسّم أحداً لرئاسة اللجنة لكونهم أعضاء نديّين، واكتفى بإعطاء رئيس مجلس الخدمة المدنية مهمة التنسيق كعبارة ملطّفة لعبارة "رئاسة اللجنة".

وإذا خرجنا من نطاق قانون الشراء، نجد أن المشترع كثيراً ما يطلب التنسيق بين عدّة جهات، ونذكر كأمثلة فقط:

1- الدستور اللبناني: المادة 64: يتابع (أي رئيس الحكومة) أعمال الإدارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل.

2- القانون رقم 287 تاريخ 12/4/2022 دعم صناعة الأدوية المنتجة محلياً: المادة 4 : ‏تشرف وزارة الصحة العامة على حُسن تطبيق هذا القانون بالتنسيق مع وزارة الصناعة.

3- المرسوم رقم 9706 تاريخ 7/7/2022 تنظيم وتحديد شروط التعليم المجاني الإلزامي:" يتم التنسيق في جميع مراحل التشخيص والتأهيل والتدريب بين وزارة الشؤون الإجتماعية والمركز التربوي للبحوث والإنماء.

وهناك العديد من النصوص الأخرى التي لا محل لذكرها حول فرض التنسيق بين عدّة إدارات لانتظام العمل في المرافق العامة، وقد وتسنى لهيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أن فسّرت كلمة التنسيق، في معرض تفسيرها المادة 47 من قانون تنظيم هيئات الضمان المعدلة بالقانون رقم 55 تاريخ 27/12/2008، التي تنص في المادة السابعة عشرة منه على ما يلي: يجري اختيار المستخدمين بنتيجة مباراة تجريها اللجنة بالتنسيق مع وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية.

حيث رأت أنه يستفاد من النصين آنفي الذكر، ان المدين بموجب اجراء المباراة التي على أساسها يتعاقد وزير الاقتصاد والتجارة مع فريق العمل لمساعدة لجنة مراقبة هيئات الضمان على القيام باعمالها، هو لجنة مراقبة هيئات الضمان بشخص رئيسها ، وان المدين بموجب التنسيق مع وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية – في معرض اجراء المباراة – هو لجنة مراقبة هيئات الضمان بشخص رئيسها، في ما الدائن بموجَب التنسيق المشار اليه – وفي معرض اجراء المباراة المحكي عنها – هو وزارة شؤون التنمية الادارية... حيث، وفي غياب اي تعريف او مفهوم قانوني لكلمة " تنسيق " في المنظومة التشريعية اللبنانية، كان لا مفرّ من الرجوع إلى المعنى او التفسير اللغوي، والشائع بين العامة من الناس، للاستدلال عما يكون الشارع قد قصده بعبارة "... بالتنسيق مع وزارة الدولة للشؤون الادارية ". حيث مَن " نسّقَ الكلام " يعني رتّبَهُ"، "وتنسّقَ الاشياء" يعني "انتظم بعضه إلى بعض"، "وتناسَقَ كلامه يعني "جاء على نسق ونظام" ، وبالفرنسية: Coordinateur = qui coordonne- Action de coordonner: Coordonner = Agencer des éléments pour constituer un ensemble cohérent

وتابعت الهيئة: حيث من الواضح ان الشارع لم يقصد، لا من قريب ولا من بعيد، لا صراحة ولا ضمناً، جعل وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية شريكاً لوزارة الاقتصاد والتجارة، لجنة مراقبة هيئات الضمان في صياغة مقومات ومستلزمات المباراة، بل كل ما في الامر ان الشارع اناط بوزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية مهمة تنسيق " كلام المباراة المكتوب " اي شروط المباراة كافة التي يقررها وزير الاقتصاد والتجارة بناء على اقتراح رئيس لجنة مراقبة هيئات الضمان، اي ترتيبه او ترتيبها على نسق ونظام، حيث يقتضي الامر ذلك، بالمعنى الاداري العام وليس بالمعنى التقني، اولاً لما اكتسبته هذه الوزارة على مدى عهود من الوزراء الاجلاء الذين تعاقبوا عليها، من خبرة في الشؤون الادارية وشؤون التنمية الادارية وثانياً لعلة انه إذا كـان لوزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية خبرة وباع في الشؤون الادارية وشؤون التنمية الادارية عامةً (الاستشارة رقم 828/2009 تاريخ 09/11/2009). وكذلك فعل المجلس الدستوري عندما قضى بأن كلمة تنسيق التي ليس لها أي مفهوم قانوني فإنها تعني لغة تنظيم وترتيب الكلام والكتابة والأفعال (قراره رقم 4/2020 تاريخ 22/7/2020 إبطال القانون النافذ حكما رقم 7 تاريخ 3/7/2020 تحديد آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا في المؤسسات العامة).

استناداً لما تقدّم، وحيث أن القاعدة الأساسية في تفسير النصوص القانونية هي إعمال النص دون إهماله، ولهذا عندما منح المشترع دوراً تنسيقياً لجهةٍ ما، كالدور الذي أناطه بالمعهد الوطني للإدارة الذي أنشئ خصيصاً لتحقيق مهمة كبرى هي إعداد وتدريب موظفي الإدارات العامة، فلا يعقل أن يصار إلى تجاهل الكفاءة والإمكانات التي يحوزها المعهد في نطاق التدريب، واستبعاده من تدريب الموظفين على قانون الشراء العام، ولكن بسبب الطابع المالي لهذا القانون ارتأى المشترع تنسيق التدريب بين المعهد المالي والمعهد الوطني للإدارة، إذ بدون هذا التنسيق لن تتحقق غاية المشترع في توفير التآزر والتعاون بين معاهد التدريب للوصول للغاية المنشودة والمتمثلة بجعل قانون الشراء العام قابلاً للتطبيق. ولهذا لا يحق للجهة التي تتولى أعمال التدريب إغفال هذا الدور أو استبعاد هذا المعهد، لأنها بذلك لا تكون فقط قد تعدت على صلاحية جهة إدارية متخصصة في شؤون التدريب، وإنما تكون قد خرقت القانون وتجاهلت أحكامه في وقت كانت هي المؤتمنة على تدريب الموظفين على حسن تطبيقه.

*استاذ القانون الإداري المعمق في الجامعة اللبنانية