تابعتُ بعضًا من جلسة انتخابات رئيس الجمهورية عبر شاشات التلفزة. شاهدت مسرحيّة بكل ما للكلمة من معنى. مسرحيّة عرفنا بدايتها لكن لا بوادر لنهايتها، جلسة جسّ نبض لا أكثر.

السمة البارزة كانت الورقة البيضاء، بانتظار نزول "الوحي" على السادة النوّاب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. اصطفافات من هنا وهناك، والكلّ يفتّش عن مصالحه، أما مصلحة لبنان أولًا فتبقى شعارات طنّانة تطلقها الكتل النيابية بداعي الشعبوية.

لن أدخل في تفاصيل الخلفيّات السياسية لكلّ كتلة، إنما أغتنم نجاح الورقة البيضاء في الجلسة الأولى، لكي أقول بما أملك من قناعة أنّ شخص الرئيس العتيد، لن يكون باستطاعته أن "يشيل الزير من البير"، في ظلّ نظام بالٍ تهيمن عليه الطائفية بامتياز.

الورقة البيضاء من المفترض أن تُترجم قلوبًا بيضاء عند السادة النوّاب. كيف لوطن مثل لبنان أن تُحل مشاكله، في ظل المتاريس السياسية والأمّنية والإجتماعية بين المواطنين؟ بلد مقسوم على نفسه! بلد مرتهن لدول! بلد يُدار بطريقة كيديّة! بلد يُصدّر قوانين صورية! بلد مفلس! بلد تحت رحمة افرقاء من الداخل والخارج! بلد معزول من محيطه العربي والعالمي! بلد باتت الهجرة الخبز اليومي للشباب! بلد تزداد فيه الهجرة غير الشرّعية! بلد يموت فيه الناس على أبواب المستشفيات! بلد شعبه تحت مستوى الفقر والجوع! بلد يفتقر مواطنوه إلى أبسط مقومات العيش، من استشفاء وتعليم وأمن! بلد تنهشه مؤامرات من كل حدب وصوب! بلد يخلو من خطّة حقيقيّة للتعافي! بلد لا استقلالية للقضاء فيه! بلد مفتوح على التهّريب والتهرّب الضريبي! بلد املاكه البحّرية مغتصبة! بلد كسّاراته مسيّسة مع محسوبيّات! بلد نُهبت أموال شعبه! بلد فيه المواطن يتشاطر على القوانين! بلد فيه كل هذه المصائب والتناقضات! بلد كهذا، ينتظر عجيبة من الله.

سؤال مطروح اليوم بقوّة على ضمير نوّاب الأمة: ألم يحن الوقت لكي يضعوا مصلحة ما تبقّى من مواطنين في سلّم الأولويات؟ ألم تأتِ الساعة التي فيها يتنازل المسؤولون عن كبريائهم وينصتون إلى صوت الحق وصوت الضمير؟.

إنها ساعة الحقيقة أيها النوّاب الكرام، لكي تحزموا أمركم في سبيل المضي بإصلاحات حقيقية، تعيد للدولة هيبتها ومكانتها. إنه وقت موافق لكي تتآزروا في سبيل الحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال هذا البلد، بشكل جدّي ومن دون شعارات كاذبة. تذكّروا أن ما من أحد يستطيع إلغاء الآخر، وكل الحروب التي عشناها، والنزاعات التي عرفناها من العام ١٩٧٥، لم تأتِ بنتيجة، حتى لو ظنّ بعض "الطوائفيين" أنّهم تفوّقوا على طوائف آخرى. بالمحصّلة لا يحمي أي طائفة في لبنان، إلّا هذا التنوّع الغني. وأقولها بصريح العبارة، وبتواضع مطلق: لبنان من دون مسيحييه ومسلميه صحراء قاحلة. هذا البلد للجميع. لبنان كومة ترابٍ نفلحها جميعًا لتأتي ثمرًا وطنيًّا. على الجميع أن يقتنعوا بالنسيج اللبناني، وينسوا فكرة التقسيم الجغرافي، لا الإداري.

لقد ورد اسم لبنان سبعين مرة في العهد القديم. وقد اقترن ذكره بذكر شجر الأرز في العديد من الآيات. هذا ليس تفصيلًا، فاسم لبنان دون أدنى شك، مشّتق من اللبان أو البخّور. ويُرجع البعض كلمة "لبنون" إلى الجذر "لبن" بالعبريّة ومعناه البياض، وهذا يتلاءم برأيهم وجبال لبنان المتوسطي التي تكللها الثلوج. انطلاقًا من هذا التوّصيف، بلدنا قادر بقوّة إلهيّة أن يستعيد عافيته، دون أدنى شكّ. فأسرعوا أيها السادة النواب لإيجاد حلول لكل المشاكل قبل فوات الأوان، لكي يبقى لبنان عابقًا بالبخّور لا برائحة العفن. كل الأمور تُحل بالحوار المبني على الثقة المتبادلة. استعيدوا ثقتكم بنفسكم، لكي يستعيد المواطن ثقته فيكم، عندها تعيدون للبنان بهاءه، وعندها تدخلون التاريخ من الباب الواسع، هذا وإلا سيتقيأكم التاريخ، وعندها تكون الورقة البيضاء تغمّست بالسواد، والاصطفافات السياسية تحوّلت مجددًا إلى متاريس عسكرية، وللاسف "جسم اللبنانيين لبّيس".