تعدّدت الأسباب والموت واحد. كلّنا مصيرنا الموت، هذا الحوت الذي لا يشبع من ابتلاع الأحبّة، الذي يساوي بين البشر كبارًا وصغارًا، أغنياء وفقراء، علماء وجهلة، ذكورًا وإناثًا.

مهما تطوّر الطب، يبقى مصير الإنسان الموت الجسديّ.

يعتقد البعض أنّ الموت هو نهاية الإنسان بالكلّية، فلا يؤمنون أنّ الجسد فانٍ وإلى التراب، أمّا الروح فإلى خالقها. لذلك لا يُحصّنون أرواحهم وأجسادهم على الأرض، بل يعيشون لإشباع رغبات الجسد ونزواته.

شعوبٌ من حول العالم تنظر إلى الموت نظرة متفاوته. أديان ومعتقدات تقاربه انطلاقًا من إعتقاداتها وتعاليمها وإيمانها. لكن مهما اختلفت وتنوعت المقاربات دينٍ وآخر، وشعبٍ وآخر، يبقى الموت واحدًا. الإختلاف ممكن أن يكون في قبوله، ويكمن في عمر المتوفّي. ذلك فقد يكون فقدان ولد أو شاب أم شابة بمقتبل العمر، أكثر حزنًا وتأثيرًا على الأهل والأقرباء والمعارف من موت أشخاص في سنّ الشيخوخة. هذا أمرٌ حيّر القدّيس أنطونيوس الكبير، الذي رفع الصوت عاليًا على مسامع ربّه، لكنّه سمع صوتًا قائلًا: "يا أنطونيوس، لو عرفت سرّ الله لحللت مكانه".

لو كلّ إنسان يتذكّر أن مصيره الموت، لأعاد اعتباراته في مسرى حياته. لو يدرك أنه سيغدو ذكرى، ممكن أن تكون حلوة أو بشعة، عندها قد يعيد حساباته. لذا قد تنتهي قصّة كثيرين منّا بموتهم إذا كانوا أشرارًا، أمّا الأبرار فتُخلّد ذكراهم. السؤال إذًا بالنسبة لنا: كيف نريد ان ننهي قصّتنا على الأرض قبل الموت؟ هل نريد أن تنتقل قصتنا إلى مرحلة ما بعد الموت؟ لذلك كيف تتحضّر يا إنسان لهذه المرحلة؟.

موت الآخرين فرصة لنا، لكي يتذكّر كلّ واحد منّا أنّ الدموع التي تنسكب على فراقه، ستجف بعد مرور الزمن، على الرغم من قساوة الفراق. فالعائلة ستهتم بتفاصيل دفن كلّ واحد منّا، وكثر يهمهم المظاهر، ومنهم مَن يحمل أهله على الراحات يوم دفنهم، وهو لم يبادر إلى حَملهم عندما كانوا أحياء. لكن مهما فعلنا من مظاهر لن تُرجع لنا ميتًا.

بالمحصّلة، سيغدو معظمنا صورة في صالون البيت، إلى أن يأتي جيل جديد من العائلة لينزع هذه الصورة من موقعها، لتحلّ مكانها صورة غيرنا. لكن إن سلكنا مسلكًا حسنًا في حياتنا، يُرضي الله والناس، سنكون عندها أيقونة معلّقة في ملكوت السماوات. فلنسأل أنفسنا مجددًا، ماذا نحضّر لمرحلة ما بعد موت الجسد؟ فإن كنّا نخاف الله ونؤمن به ونعيش على حسب تعاليمه ووصاياه، فلن نخاف الموت. معادلة بسيطة إذا سلكناها فلن نعرف الموت أبدًا.

يقول القدّيس إسحاق السوري: "إن متّ قبل أن تموت، فلن تموت عندما تموت". وقد سبق وبيّن لنا بولس الرسول حقيقة هذا الكلام من خلال ما ذكره في رسالته إلى أهل كولوسي، بقوله: "فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ"(كولوسي 3: 5). لا يعني هنا تدمير الأعضاء الجسدية، بل إماتة الرذائل من حياتنا، بخلعنا الإنسان العتيق، وبلبسنا الإنسان الجديد على صورة خالقنا. الخطيئة هي التي تميت الإنسان قبل وفاته، وهي التي تجعله إنسانًا مائتًا روحيًا في جسد لا يزال يتنفس في هذا العالم. كثر من الناس موتى في خطاياهم وهموم الدنيا، لكن من يعيش الفضائل السماوية، ولا سيّما الإيمان والرجاء والمحبّة، فهو حيٌ في عينيّ الله، الآن وبعد الموت. الانسان يُعتبر ميّتًا عندما يموت قلبه عن الصلاة، ويموت عقله عن التفكر في عظائم الله، ويموت لسانه عن ذكر الله.

أسأل في الختام: كيف يكون الإنسان حيًا وهو بعيد عن الله؟ برأيي المتواضع هو انسان ميّت! وعندما يموت، فإنه طبّق الموت بما معناه: بجسد ميّت ولسان ميّت وعقل ميّت وقلب وضمير ميّت. هكذا يكون قد مرّ مرور الكرام في هذا العالم وتتناساه الأجيال، ويكون بذلك قد خسر الحياة الأرضيّة والسماويّة. والسلام.